السبت 03 جمادى الثانية 1434 هـ الموافق لـ: 13 أفريل 2013 10:12

- شرح أصول التّفسير (8) تابع: أوّل ما نزل وآخر ما نزل من القرآن الكريم

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

ثمّ قال رحمه الله:

( وفيهما عن جابر رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال وهو يحدّث عن فترة الوحي: (( بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ ... )) فذكر الحديث، وفيه، فأنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} إلى:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُر (5)} [المدثر].

وثَمَّتَ آياتٌ يقال فيها: أوّل ما نزل، والمراد أوّل ما نزل باعتبار شيءٍ معيّن، فتكون أوّليةً مقيّدةً، مثل: حديث جابر رضي الله عنه في الصّحيحين أنّ أبا سلمة بنَ عبد الرّحمن سأله: أيّ القرآن  أنزل أوّلُ ؟ قال جابر:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}, قال أبو سلمة: أنْبِئْت أنّه:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، فقال جابر: لا أخبرك إلاّ بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( جَاوَرْتُ فِي حِرَاءَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ ...)) فذكر الحديث وفيه: (( فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِداً، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدّثر:1-5])).

فهذه الأوّلية الّتي ذكرها جابر رضي الله عنه باعتبار أوّل ما نزل بعد فترة الوحي، أو أوّل ما نزل في شأن الرّسالة؛ لأنّ ما نزل من سورة {اِقْرَأْ} ثبتت به نبوّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وما نزل من سورة المدّثر ثبتت به الرّسالة في قوله:{قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:2].

ولهذا قال أهل العلم: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم نُبِّئ بـ{اقْرَأْ} وأرسل بالمُدَّثّر.

الشّرح:

سبق توجيه قول جابر رضي الله عنهما، ولا بدّ من وقفةٍ مع ما ذكره عن بعض أهل العلم: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم نُبِّئ بـ{اقْرَأْ} وأرسل بالمُدَّثّر.

فهذا القول لا حاجة إليه إذا تبيّن لنا أنّ رواية جابر رضي الله عنهما توضّح الأوّليّة المذكورة.

ثمّ إنّه مبنيّ على التّعريف بالنبيّ بخلاف الصّواب.

( فصل في بيان معنى الرّسول والنّبيّ )

فإنّ هناك فرقا بين النبيّ والرّسول، خلافا لما ادّعاه بعضهم بأنّه لا فرق، فالقرآن والسنّة فرّقا بينهما.

أمّا الكتاب فقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه} [الحجّ: 52].

وأمّا السنّة، فقد روى الإمام أحمد عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قلت: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَمْ وَفَاءُ عِدَّةِ الأَنْبِيَاءِ ؟ قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفاً، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ: ثَلاَثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمَّا غَفِيراً )) ["الصّحيحة" (2668)].

وروى أيضا عن أبي هريْرَة رضي الله عنه قال: جَلَسَ جِبْرِيلُ عليه السّلام إلى النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فقال جبْرِيلُ عليه السّلام: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، قَالَ: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا ؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: (( بَلْ عَبْدًا رَسُولًا )) ["الصّحيحة" (1002)].

فإذا تبيّن أنّ هناك فرقا بين النبيّ والرّسول، فقد ذكروا أقوالا في بيان ذلك: منها الصّحيح، ومنها الضّعيف، ومنها الباطل الذي من ورائه الزّندقة كتعريف غلاة الصّوفية.

- فمن التّعريفات الخاطئة: أنّ الرّسول أُمِر بالتّبليغ، والنبيّ لم يُؤمَر بذلك ! وهذا ضعيف؛ لما يلي:

الأوّل: أنّ الله تعالى نصّ على أنّه أرسل الأنبياءَ كما أرسل الرسل:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ}، وإنّ الإرسال يقتضي من النبيّ الإبلاغ. 

الثّاني: أنّ ترك البلاغ كتمان لوحي الله تعالى، والله لا ينزّل وحيَه ليُكتَم ويُدفن في صدر واحد من الناس، ثمّ يموت هذا العلم بموته.

الثّالث: أنّ عوامّ بني إسرائيل - ومثلهم جميع الملل - أخذ الله عليهم الميثاق بالتّبليغ فكيف بالأنبياء ؟!

قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران (187)].

الرّابع: ما أخرجه البخاري عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ )).

فهذا النبيّ معه الرّهط من أتباعه، فكيف يتّبعوه لولا البلاغ ؟

الخامس: ما رواه البخاري عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي )).

قال الحافظ رحمه الله:" قوله: (( تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاءُ )) أي: أنّهم كانوا إذا ظهر فيهم فساد بعث الله لهم نبيّا لهم يقيم أمرهم، ويزيل ما غيّروا من أحكام التّوراة ".

- ومن التّعريفات الخاطئة: أنّ الرّسول من بُعِث بكتاب، والنبيّ لم يُبعث بكتاب، وهذا ضعيف كذلك؛ لأنّ هناك رسلا أجمعت الأمّة على رسالتهم بنصّ القرآن، ولم يؤتُوا كتبا، كإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وسليمان وغيرهم عليهم السّلام.

- ومن التّعريفات الخاطئة: أنّ الرّسول يجيء بشرع جديد، والنبيّ تابع لشرع الرّسول، وهذا خطأ أيضا؛ لأنّ هناك رسلا كانوا على شريعة من سبقهم كذرّية إبراهيم عليهم السّلام.

فالصّواب - والله تعالى أعلم - هو ما حقّقه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "النّبوات" (1/184)، فيقال:

إنّ الرّسول هو: من أرسل إلى قوم مخالفين، يُجدّد لهم أمرَ التّوحيد، ويكذّبه بعض قومه فيخاصمونه وهو مأمور بالتّبليغ والإنذار، وقد يكون معه كتاب وربّما لم يكن، وقد يكون شرعه جديدا وربّما كان مكمّلاً لشرع سابق - أي فيه زيادة ونسخ -.

أما النبيّ فهو: من أوحِي إليه، ويبعث في قوم مؤمنين، يحكم بشريعة سابقة له يدعو إليها ويحييها، ويؤمر بالتّبليغ والإنذار، وقد يكون معه كتاب.

والله تعالى أعلم.

أخر تعديل في الأربعاء 20 جمادى الثانية 1434 هـ الموافق لـ: 01 ماي 2013 13:43
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي