وهذا أبو ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه يوم ضربه أهل مكّة حتّى أَدْمَوه، سأله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم – كما صحيح مسلم – : (( فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ ؟ )) قَالَ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ ! قَالَ: (( إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ )).
( فائدة ) بسبب تسميتها طعاما استدلّ الشّافعيّة أنّ الرّبا يقع في الماء، لأنّه طعام، وأيّدوا ذلك بقوله تعالى عن ماء النّهر في قصّة طالوت:{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}.
- قوله: ( وَشِفَاءُ سُقْمٍ ): قال ابن القيّم رحمه الله في " زاد المعاد " (4/393):
" وقد جرّبت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورا عجيبة، واستشفيت به من عدّة أمراض، فبرأت بإذن الله، وشاهدت من يتغذّى به الأيّام ذواتِ العدد قريبا من نصف الشّهر أو أكثر، ولا يجد جوعا، ويطوف مع النّاس كأحدهم، وأخبرني أنّه ربّما بقي عليه أربعين يوما، وكان له قوّة .. يصوم ويطوف مرارا ".
وأيدّ المؤلّف ذلك بالحديث التّالي.
· الحـديـث الثّـالـث:
1163-وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ:
" كُنَّا نُسَمِّيهَا شُبَاعَةَ – يَعْنِي زَمْزَمَ –، وَكُنَّا نَجِدُهَا نِعْمَ العَوْنُ عَلَى العِيَالِ ".
[رواه الطّبراني في "الكبير"، وهو موقوف صحيح الإسناد].
· شـرح الحـديـث:
- قوله: ( كُنَّا نُسَمِّيهَا شُبَاعَةَ ): على وزن فُعالة، قال الزّبيدي في " تاج العروس ":
" شُبَاعَة كقُدامَة: اسم من أسماءِ زَمْزَم في الجاهليّة، هكذا ضَبَطَه الصَّاغانِيّ، سُمِّيت بذلك لأنّ ماءَها يُروي العَطْشان ويُشبِعُ الغَرْتان ".
ومنهم من ضبطها بفتح الشّين وتشديد الباء، فقال: شَبَّاعة.
- قوله: ( وَكُنَّا نَجِدُهَا نِعْمَ العَوْنُ عَلَى العِيَالِ ): هذا يدلّ على كثرة بركتها.
· الحـديـث الرّابـع:
1164-وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَاءُ زَمْزَمٍ لِمَا شُرِبَ لَهُ ... )).
[رواه الدّارقطني، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد إن سلم من الجارود"-يعني محمّد بن حبيب-.
(قال الحافظ): "سلم منه، فإنّه صدوق، قاله الخطيب البغداديّ وغيره، لكنّ الرّاوي عنه محمّد بن هشام المروزي، لا أعرفه".
· الحـديـث الخـامـس:
1165-وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ )).
[رواه أحمد وابن ماجه، وإسناده حسن].
· شـرح الحـديـثين:
- قوله: ( مَاءُ زَمْزَمٍ لِمَا شُرِبَ لَهُ ... ): أي: هو من أسباب البركة، فما على العبد إذا شربه إلاّ أن ينوي الخير، ويسأله الله تعالى.
وتتمّة الحديث زيادة ضعيفة، لذلك حذفها الشّيخ الألباني رحمه الله، وهي: ( إن شربته تستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبرائيل عليه السّلام، وسقيا الله إسماعيل عليه السّلام ).
والهزمة: بفتح الهاء وسكون الزاي هو: أن تغمز موضعا بيدك أو رجلك فتصير فيه حفرة.
ونلحظ أنّ معناه صحيح، ولكن لا يجوز نسبته إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
- تنبيه: قد ضعّف هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المؤمّل راويه عن محمّد بن المنكدر، كالحافظ القيسراني في "ذخيرة الحفّاظ" (4/4779).
قال السّيوطي رحمه الله في " حاشيته على سنن ابن ماجه ":
" هذا الحديث مشهور على الألسنة كثيرا، واختلف الحفّاظ فيه، فمنهم من صحّحه، ومنهم من حسّنه، ومنهم من ضعّفه، والمعتمد الأوّل، وجارَ من قال: إنّ حديث: (( الباذنجان لما أكل له )) أصحّ منه، فإنّ حديث الباذنجان موضوع كذب، وفي " الزّوائد ": هذا إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن المؤمّل ".
وقد أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق ابن عبّاس وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد"، قلت: وقد ذكر العلماء أنّهم جرّبوه فوجدوه كذلك، والله أعلم ".
وقال ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/393):
" وابن أبي الموالي ثقة، فالحديث إذًا حسن، وقد صحّحه بعضهم، وجعله بعضهم موضوعا، وكلا القولين فيه مجازفة ".
- عمل السّلف بالحديث:
كان السّلف الصّالح يسألون الله تعالى بعد شربه، فعن عبد الله بن المبارك أنّه لمّا حجّ أتى زمزم فقال:" اللّهمّ إنّ ابن أبي الموالي حدّثنا عن محمّد بن المنكدر، عن جابر عن نبيّك صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: (( مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ ))، وإنّي أشربه لظمأ يوم القيامة ".
بقيت هناك مسألتان نتطرّق إليهما تتعلّقان بماء زمزم:
- المسألة الأولى: حكم التوضّؤِ منه.
اختلف العلماء في حكم الاغتسال والوضوء من ماء زمزم:
1) فمنهم من قال: يُكره، وذكروا أنّه رواية عن أحمد، والشّافعيّ، واحتجّوا بأمرين:
أ) بأثرٍ عن العبّاس رضي الله عنه: قال ابن تيمية – كما في " مجموع الفتاوى " (12/600) –:
" وقد كان العبّاس بن عبد المطّلب يقول في ماء زمزم: ( لا أحلّه لمغتسل ) ".
ب) وبأنّه مبارك.
2) والجمهور على القول بالجواز، وهو الصّواب إن شاء الله، وذلك:
أ) لما رواه أحمد عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم دَعَا بِسَجْلٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: (( انْزِعُوا يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! فَلَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا عَلَيْهَا لَنَزَعْتُ )).
[أي: لو رآه النّاس يسقي النّاس لرغبوا كلّهم في اتّباع هديه صلّى الله عليه وسلّم، فيزاحمون بني عبد المطّلب على السّقاية الّتي كانت فيهم، ومن خصائصهم].
ب) أمّا قولهم: إنّه مبارك، فهذا لا يمنع من استعماله للطّهارة، بل هو أولى، وها هو ماء السّماء يقول فيه المولى تبارك وتعالى:{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً } [ق: من الآية9]، ويجوز التوضّؤ منه.
فإن قالوا: إنّ بركته أوكد، فيقال:
إنّ الصّحابة رضي الله عنهم توضّئوا من الماء الّذي نبع من بين أصابع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا يشكّ أحد في أنّه أعظم بركة.
ت) ثمّ إنّ أثر العبّاس رضي الله عنه لم يذكر الوضوء، وإنّما قاله عن اجتهاده، وفعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حجّة في الباب.
والغسل كالوضوء، بجامع الطّهارة. فلعلّه رضي الله عنه يقصِد نزع النّجاسة به، فكرهه، فهذا له وجه.
قال ابن تيمية رحمه الله:
" والصّحيح أنّ النّهي من العبّاس رضي الله عنه إنّما جاء عن الغسل فقط، لا عن الوضوء، والتّفريق بين الغسل والوضوء هو لأنّ الغسل يشبه إزالة النّجاسة ولهذا يجب أن يغسل فى الجنابة ما يجب أن يغسل من النّجاسة، وحينئذ فصون هذه المياه المباركة من النّجاسات متوجِّه، بخلاف صونِها من التّراب ونحوه من الطّاهرات، والله أعلم ".
- المسألة الثّانية: حكم حمله خارج مكّة ؟
قد عدّه بعض العلماء من البدع المحدثة، كالإمام الشّقيري رحمه الله في " السّنن والمبتدعات ".
ولكنّ الصّواب هو جوازه لفعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوّلا، ولفعل الصّحابة ومَن بعدَهم ثانيا.
أ) روى التّرمذي، والبخاري في " التّاريخ الكبير " (2/1/173)، والبيهقيّ في " السّنن " (5/202)، وفي " الشّعب" (3/482/4129) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَتُخْبِرُ: (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَحْمِلُهُ )).
قال في " تحفة الأحوذيّ ":
" فيه دليل على استحباب حمل ماء زمزم إلى المواطن الخارجة عن مكّة ". [والحديث في " الصّحيحة " رقم (883)].
ب) روى الطّبرانيّ في " الكبير " (3/28) بسند حسن عن حبيب بن أبي ثابت قال: سألت عطاء:" أَحْمِلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ؟ " فقال: " قَدْ حَمَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَحَمَلَهُ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ رضي الله عنهما.
ت) روى البيهقيّ (5/202) عن جابر رضي الله عنه أُتِي بماء زمزم فشرب، فقالوا: ما هذا ؟ قال: هذا ماء زمزم، قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَاءُ زَمْزَمٍ لِمَا شُرِبَ لَهُ )). ثمّ قال:" قد أرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم- وهو في المدينة - إلى سهيل بن عمرو قبل أن تفتح مكّة: (( أَنْ أَهْدِ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِمَزَادَتَيْنِ )).
قال الشّيخ الألباني رحمه الله في " الصّحيحة ": " وإسناده جيّد". وقد خرّجه رحمه الله في " الإرواء " (4/321).
والله أعلم.