نصّ الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته، وتقبّل الله منّا ومنكم.
فإذا أردت – أخي الكريم – الإجمال في الإجابة، فاعلم أنّ علماءنا قد اختلفوا في هذه المسألة على قولين اثنين:
فمنهم من جوّزها، كالشّيخ ابن باز رحمه الله وغيره من علماء الهيئة، وهو الصّواب إن شاء الله.
ومنهم من منع ذلك كالشّيخين الألبانيّ وابن عثيمين رحمهما الله رحمة واسعة، وكانا يسمّيانها: عمرة الحُيّض.
لذلك من أراد الاحتياط لعبادته، فليعمل بما اتّفقوا على صحّته، وهو الخروج إلى ميقات بلده، أو أيّ ميقات، لأنّه بمكّة.
أمّا إذا شئت التّفصيل فإليكه:
· القول الأوّل:
منهم من خصّ الخروج إلى التّنعيم – وهو أدنى الحلّ – بالحائض إذا حجّت قارنة أو متمتّعة، فإنّها تأتي بجميع المناسك إلاّ الطّواف. فإذا طهرت بعد ذلك خرجت إلى التّنعيم وأهلّت بالعمرة، وذلك تيسيرا لأمرها.
ويرون أنّ من أخطاء العوامّ، الخروج إلى التّنعيم من أجل الإحرام.
واستدلّوا على ذلك بأنّه لم يُنقل عن الصّحابة رضي الله عنهم الإحرام من التّنعيم إذا أرادوا معاودة العمرة، وهم كانوا أحرص الأمّة على الخير، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
· القول الثّاني:
يرى فريق آخر من أهل العلم جواز ذلك لكلّ من كان بمكّة وأراد العمرة، فيخرج إلى أدنى الحلّ، ويُحرمُ منه.
وليس شرطا أن يخرج إلى التّنعيم فقط، ولكن يخرج إلى أدنى الحلّ من أيّ الجهات.
قال ابن مفلح رحمه الله في "المُبدع" (3/260):" (فصل) في صفة العمرة: من كان في الحرم خرج إلى الحلّ فأحرم منه، والأفضل أن يُحرِم من الّتنعيم ".
وقال البهوتي رحمه الله في "الرّوض المربّع" (1/523): "وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات إن كان مارّا به، أو من أدنى الحلّ كالتّنعيم من مكّي ونحوه ممّن بالحرم " ثمّ قال:" ويستحبّ تكرارها في رمضان لأنّها تعدل حجّة، وتجزئ العمرة كلّ وقت من التّنعيم ".
وهو الصّواب إن شاء الله تعالى، واستدلّوا على ذلك:
1) بحديث عائشة رضي الله عنها، ولم يحصروا العذر في الحيض، وإنّما الخطاب لكلّ من يشقّ عليه الإحرام من ميقات بلده.
2 ) أمّا قولهم: إنّه لم يُنقَل ذلك عن الصّحابة رضي الله عنهم، فمردود بفعل بعضهم.
فقد ذكر سعيد بن منصور في " سننه " أنّ أنس بن مالك رضي الله عنه ( كَانَ إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَحَمَّمَ رَأْسَهُ، خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَ ). أي: كان يعتمر وينتظر حتّى ينبت شيء من شعر رأسه، فيعتمر من التّنعيم.
3) ثمّ عدم ثبوت الشّيء لا يدلّ على عدم الجواز مطلقا، فإنّ ذلك يقيّد بانعدام المانع.
ونظير ذلك: جواز تكرار العمرة أكثر من مرّة في العام الواحد، مع أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يفعله.
4) قول المانعين: إنّه يُحرِم من ميقات أهل بلده، هو أيضا قول بشيء لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن القيم رحمه الله في " زاد المعاد " (1/243):
" ولم يكن صلّى الله عليه وسلّم في عُمَرِهِ واحدةٌ خارجاً من مكّة كما يفعل كثير من النّاس اليوم، وإنّما كانت عُمَرُهُ كلّها داخلاً إلى مكّة، ... ولم يفعل هذا على عهد أحد قط إلا عائشة وحدها من بين سائر من كان معه، لأنّها كانت قد أهلّت بالعمرة فحاضت ... ولم يعتمر هو من التّنعيم في تلك الحجّة، ولا أحد ممّن كان معه ) اهـ.
فعلى قول ابن القيّم رحمه الله يكون من اعتمر من ميقات بلده أكثر من عمرة في العام الواحد مخالفا للسنّة.
5) يجوز أن يكون التّنعيم ميقاتا لأهل مكّة إذا أرادوا العمرة مفردةً. فلْيُقَسْ إذن عليهم غيرُهم.
قال النّووي رحمه الله في شرح قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرّحمن بن أبي بكر: (( اُخْرُجْ بِأُخْتِك مِنْ الْحَرَم فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ )):
" فيه دليل لما قاله العلماء أنّ من كان بمكّة وأراد العمرة فميقاته لها أدنى الحلّ، ولا يجوز أن يحرِم بها من الحرم ...
قال العلماء: وإنّما وجب الخروج إلى الحلّ ليجمع في نسكه بين الحلّ والحرم، كما أنّ الحاجّ يجمع بينهما، فإنه يقف بعرفات وهي في الحلّ، ثمّ يدخل مكّة للطّواف وغيره. هذا تفصيل مذهب الشافعي.
وهكذا قال جمهور العلماء، أنّه يجب الخروج لإحرام العمرة إلى أدنى الحلّ، وأنّه لو أحرم بها في الحرم ولم يخرج لزمه دم.
وقال عطاء: لا شيء عليه. وقال مالك: لا يجزئه حتّى يخرج إلى الحلّ.
قال القاضي عياض: وقال مالك : لا بدّ من إحرامه من التّنعيم خاصّة. قالوا: وهو ميقات المعتمرين من مكّة، وهذا شاذ مردود.
والّذي عليه الجماهير أنّ جميع جهات الحلّ سواء، ولا تختصّ بالتّنعيم، والله أعلم "اهـ.
الشّاهد ممّا ذكرته: أنّ التّنعيم ميقات ولو في بعض الأحوال، فيمكن أن يكون ميقاتا لأهل الأعذار.
ومن هذه الأعذار تغيّر الأحوال هذا الزّمان، الّذي أضْحى المسلم يدفع فيه الأموال الطّائلة، والمجهودات الهائلة، كي يحصُل على تأشيرة للحجّ، بلْـهَ الإمكانات المادّية ! زِدْ على ذلك: خوف مداهمة المنيّة. والله المستعان.
وبالجواز أفتى كلّ من الشّيخ عبد الله بن غديان، والشّيخ عبد الرزّاق عفيفي، والشّيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، كما تراه في " فتاوى اللّجنة الدّائمة " رقم (11638).
والله أعلم، وأعزّ وأكرم.