الثلاثاء 17 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 23 نوفمبر 2010 09:27

- تفسير سورة البقرة (6) منازل المتّقين عند ربّ العالمين

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فإنّ أوّل منازل المتّقين الّتي بيّنتها الآية الكريمة:

- منزلة الهداية: وقد تبيّن لنا من قوله عزّ وجلّ:{ هُدًى للْمُتَّقِينَ } أنّ الّذين ينتفعون بالقرآن إنّما هم المؤمنون المتّقون فحسب، ويؤيّد هذه الآية آيات أخرى منها:

قوله تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].

وقوله عزّ وجلّ:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124].

وقوله سبحانه:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت: من الآية44].

وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].

وقوله:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة: من الآية64]، وغير ذلك.

فترى أهل التّقوى يميّزهم الله بالنّور والبصيرة، فيرون الأشياء على حقيقتها، يرون الدّنيا .. يرون المال .. يرون الجاه .. يرون الإنسان .. كلّ ذلك يرونه على حقيقته، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29]، وقال عزّ وجلّ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].

ومن منازل المتّقين ومراتبهم:

- أنّهم هم لبّ البشريّة: فهم النّاس، وغيرهم ليسوا بشيء.

ومن ألطف ما وقفت عليه من كلام أهل العلم في تفسير هذه الآية ما قاله الرّازي رحمه الله في " تفسيره ":

" ولوْ لم يكن للمتّقي فضيلة إلاّ ما في قوله تعالى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} لكفاه، لأنّه تعالى بيّن أنّ القرآن هُدى للنّاس في قوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة: من الآية185]، ثمّ قال ههنا في القرآن: إنّه هُدًى للمتّقين، فهذا يدلّ على أنّ المتّقين هم كلّ النّاس، فمن لم يكن متّقيا كأنّه ليس بإنسان " اهـ.

ويؤكّد ذلك:

- أنّهم أهل الشّرف عند الله عزّ وجلّ:

فقد جعل الله تعالى التّقوى هو ميزانَ الشّرف والمكارم، فقال جلّ جلاله:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: من الآية13].

لذلك قال ابن عبّاس رضي الله عنه:" من أحبّ أن يكون أكرم النّاس فلْيتّق الله، ومن أحبّ أن يكون أقوى النّاس فليتوكّل على الله ".

- أنّهم الفائزون بمحبّة الله عزّ وجلّ:

فقال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: من الآية4]. وإنّ الله إذا أحبّ عبدَه تولاّه وحماه، ونصره وكفاه ...

وفي الحديث القدسيّ: (( وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ )) [رواه البخاري].

- وأنّهم الفائزون بمعيّة الله عزّ وجلّ: ومن كان الله معه، حاز الخير أجمعه.

قال عزّ وجلّ:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقال جلّ جلاله:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: من الآية194].

فإذا بلغ العبد منزلة المتّقين حاز مفاتيح الخير في الدّنيا والدّين.

- فتقوى الله عزّ وجلّ مفتاح الولاية: قال تعالى:{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثـية: من الآية19].

وإذا تولّى الله عبده أذهب عنه حزن الماضي وخوف المستقبل، إذ قال جلّ ذكره:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس].

فليس الوليّ من بُنِيت عليه القِباب، ودُعِي من دون الله العزيز الوهّاب، ولكنّه من اتّقى الله عزّ وجلّ: بفعل المأمور، وترك المحظور، والصّبر على المقدور.

- وتقوى الله هو المخرج من كلّ ضيق:

هو المخرج من الكروب والغموم، والمضايق والهموم، إذ قال تعالى وهو أحسن القائلين، ووعَد وهو أوفى الواعدين:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: من الآية2].

وجعل التّقوى من أعظم أسباب الرّزق، فقال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (3)} [الطلاق].

- وتقوى الله مفتاح الفوز والفلاح:

فقد قال عزّ وجلّ:{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: من الآية200]،

وغاية الفلاح الفوز بالجنّة فقال تعالى:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} [النبأ:31]، وقال عزّ شأنه:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر].

ثمّ النّجاة من النّار، قال تعالى:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72].

فما على العبد إلاّ أن يحمل نفسَه طائعةً أو كارهةً على تقوى الله عزّ وجلّ، حتّى وإن زلّت به القدم، فاقترف الفواحش واللّمم، فليعلم أنّ من تقوى الله التّوبة والنّدم.

ذلك أمر الله، وتلك هي وصيّة الله عزّ وجلّ للأوّلين والآخرين، فقال:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: من الآية131]، فأخرج نفسك من زمرة المرضى وقل:{ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.

والله الموفّق لا ربّ سواه.

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي