السبت 11 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 15 جانفي 2011 17:48

- تفسير سورة البقرة (13) معنى النّفاق وأنواعه.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فيقول الله عزّ وجلّ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}

وفي هذه الآيات مسائل:

المسألة الأولى: مناسبة الآيات لما قبلها.

فقد ذكر الله سبحانه صفات المؤمنين في صدر السّورة في أربع آيات، ثم عرّف حال الكافرين بآيتين، ثمّ بدأ المولى تبارك وتعالى في بيان حال المنافقين، الّذين يُظهِرون الإيمان ويُبطنون الكفر.

ومن الجدير بالتّنبيه عليه أنّ المنافقين لهم في كلّ زمان ومكان لقبٌ يلبّسون به على النّاس، ويتخلّلون به وسط الأجناس، وفي هذا الزّمان تراهم يتسّمون بـ"العلمانيّين "، وما هم في الحقيقة إلاّ من جنس المنافقين.

 

وقد أطنب الله عزّ وجلّ في ذكرهم في ثلاثَ عشْرَةَ آيةً؛ لشدّة ضررهم، وعظيم خطرهم؛ لأنّ أمرهم يشتبه على كثير من النّاس.

قال ابن القيّم رحمه الله في "طريق الهجرتين" (596):

" فالكفّار والمجاهرون بكفرهم أخفّ، وهم فوق المنافقين في دركات النّار؛ لأنّ الطّائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنّفاق، وبليّة المسلمين بهم أعظم من بليّتهم بالكفّار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقّهم:{هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}"اهـ، ووجه الدّلالة من الآية الّتي ذكرها رحمه الله أنّ هذا الأسلوب هو أسلوب الحصر، وكأنّه قال: لا عدوّ غيرهم فاحذرهم.

المسألة الثّانية: معنى النّفاق وزمان ظهوره.

النّفاق في اللّغة مأخوذ من الإنفاق ومعناه الخروج، فسمّي المنافق منافقا لإظهاره غير ما يضمر، تشبيها له باليربوع، فإنّ له جحرا يقال له: النّافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء، فتراه يخرق الأرض حتّى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض توقّف وترك التّراب، فإذا رابه شيء دفع ذلك التّراب برأسه فخرج، فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر، وكذلك المنافق ظاهره إيمان، وباطنه كفر.

واسم النّفاق لم يكن معروفا لدى العرب بالمعنى الخاصّ الّذي جاء ذكره في الكتاب والسنّة.

والنّفاق في الشّرع نوعان:

1- نفاق أكبر: وهو - والعياذ بالله - إبطان الكفر وإظهار الإسلام.

ولقد اعتنت السّور المدنيّة بذكر صفات المنافقين، وخصّت السّور المدنيّة بذلك دون المكّية لأنّه لم يكن للنّفاق وجود في مكّة، بل كان الأمر في مكّة على خلاف النّفاق، فكان كثير من أهل الإسلام بمكّة يُخفُون إسلامهم ويُسرّون إيمانهم خوفا من المشركين.

ولم يظهر النّفاق حتّى قَوِِيَت شوكة المسلمين بالمدينة وذلك بعد غزوة بدر، فهناك خَرِست ألسنتُهم، وجحظت أبصارهم، وتفطّرت قلوبهم، فخافوا على أنفسهم، وأعراضهم وأموالهم، فما كان منهم إلاّ أن أعلنوا إسلامهم في الظّاهر .. وظهر النّفاق والمنافقون ..

روى البخاري ومسلم عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ:

كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الْآيَةَ..وَقَالَ اللَّهُ:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَتَأَوَّلُ الْعَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بَدْرًا، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ:" هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ "، فَبَايَعُوا الرَّسُولَ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا.

2- نفاق أصغر: وضابطه من تشبّه ببعض صفات المنافقين:

· كمن يضمر الشرّ ويظهر الخير.

· والمرائيّ الّذي يُظهر للملأ خلاف ما هو عليه في الواقع.

· ذو الوجهين، ففي الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ: الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ )).

قال النّوويّ رحمه الله:" هو الّذي يأتي كلّ طائفة بما يُرضِيها، فيُظهر لها أنَّه منها ومخالفٌ لضدِّها، وصنيعُه نفاقٌ ومحضُ كذبٍ وخداع، وتحيُّل على الاطِّلاع على أسرار الطّائفتين، وهي مداهنة محرّمة.

· أعمال حكم الله عليها بأنّ أصحابها قد شابهوا المنافقين، ومنه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: (( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ))[1].

وقد عدّ جماعة من العلماء هذا الحديث مشكلا؛ حيث إنّ هذه الخصال قد تكون في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره، وأجوبتهم عن ذلك كثيرة قريب بعضها من بعض:

أ) فمنهم من قال: إنّ صاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلّق بأخلاقهم.

ب) ومنهم من قال: إنّ المراد بالنّفاق نفاق العمل، وهذا ارتضاه القرطبيّ وابن القيّم رحمهما الله، حيث قال في " حكم تارك الصّلاة " (ص 77) بعد ما بيّن أنّ الكفر منه أكبر ومنه أصغر:

" وكذا النّفاق نفاقان: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل.

فنفاق الاعتقاد: هو الّذي أنكره الله على المنافقين في القرآن، وأوجب لهم الدّرك الأسفل من النّار.

ونفاق العمل: كقوله في الحديث الصّحيح: (( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ )).

وفي الصّحيح أيضا: (( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ، حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ )).

فهذا نفاق عمل، قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلّية، وإن صلّى وصام وزعم أنّه مسلم، فإنّ الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلاّ منافقا خالصا "اهـ.

واستدلّ القرطبي رحمه الله له بقول عمر رضي الله عنه لحذيفة رضي الله عنه: ( هَلْ تَعْلَمُ فِـيَّ شَيْئًا مِنَ النِّفَاقِ ؟ ) فإنّه لم يرد بذلك نفاق الكفر، وإنّما أراد نفاق العمل.

ويؤيّد ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً ))، فيفهم منه أنّ هناك نفاق عمل غير خالص.

ج) ومنهم من قال: المراد بإطلاق النّفاق: الإنذار والتّحذير عن ارتكاب هذه الخصال، وأنّ الظّاهر غير مراد، وهذا ارتضاه الخطّابي.

لذلك قال البخاري رحمه الله: بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:" أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ".

د) وذكر الخطّابيّ أيضا قولا آخر وهو: أنّه يحتمل أنّ المتّصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا، قال: ويدلّ عليه التّعبير بـ( إذا ) فإنّها تدلّ على تكرار الفعل.

والحاصل أن يقال: إنّ النفاق شعب، وإذا ارتكب المؤمن بعض شعبه لم يحكم عليه بالنّفاق المخرج من الملّة، كما أنّ الإيمان شعب، ولن يستكمل الإيمان من قام ببعض شعبه، وقد روى التّرمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ))، ومع ذلك لا يستكمل الإيمان بالأخلاق.

المسألة الثّالثة: شرح بعض ألفاظ الآيات.

-( وَمِنَ النَّاسِ ): النّاس: جمع إنسان، و( الأناس ) لغة في النّاس، قال سيبويه رحمه الله:" والأصل في النّاس الأناس مخفّفا، فجعلوا الألف واللاّم عوضا من الهمزة، وقد قالوا الأناس "اهـ. ويقال أيضا الإنس.

ولا يقال للمرأة " إنسانة " ولكن " إنسان "، خلافا لما راج لدى العامّة.

والإنس والإنسان مأخوذ إمّا:

أ) من الأُنس، وهو خلاف الوحشة، تقول: أنِست به بالكسر أُنْسا، أي: زالت وحشتي منه.

ومن كلام العرب: إذا جاء اللّيل استأنس كلّ وحشيّ، واستوحش كلّ إنسيّ، وفي الحديث: (( أَنَّهُ صلّى الله عليه وسلّم نَهَى عَنِ الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ )) يعني: الّتي تُألف.

ثمّ كثر استعمال هذه الكلمة حتّى استعملوها بمعنى الأشخاص، فقالوا: ناس من الجنّ.

ب) أو من استأنست وآنست بمعنى أبصرت، وآنس الشيءَ أحسّه، وفي التّنزيل العزيز:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [القصص:من الآية29]، يعني أبصر نارا. وآنس الشّيء علمه، يقال: آنست منه رشدا أي علمته، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النّساء: من الآية6]، وآنست الصّوت سمعته، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النّور: من الآية27]، أي: تعلموا، ومن كلام العرب: " اذهب فاستأنس هل ترى من أحد ؟"، أي: انظر من ترى في الدار.

فمن أجل ذلك قيل للإنس إنس لأنّهم يؤنَسون، أي: يُبصرون، كما قيل للجنّ ( جنّ ) لأنّهم لا يؤنسون، أي لا يبصرون.

-( مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ ): أي: هذا مجرّد قول ليس وراءه شيء آخر.

وقولهم: ( آمنّا ) جملة فعليّة تفيد التجدّد، فصفة الإيمان فيهم غير ثابتة.

( وباليوم الآخر ): أعادوا الباء فأدخلوها مرّة أخرى على المعطوف ليؤكّدوا إيمانهم، فكذّبهم الله وأبطل زعمهم على طريقة التوكيد أيضا فقال:

-( وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ): وأتى بالجملة الاسمية ليبين أن صفة الإيمان غير ثابتة فيهم.

ونظير هذه الآية قوله تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1].

والله الموفّق لا ربّ سواه



[1] قال الحافظ رحمه الله في " فتح الباري ": ( ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثّلاث أنّها منبّهة على ما عداها؛ إذ أصل الدّيانة منحصر في ثلاث: القول، والفعل، والنيّة.

فنبّه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النيّة بالخلف، لأنّ خلف الوعد لا يقدح إلاّ إذا كان العزم عليه مقارنا للوعد، أمّا لو كان عازما ثمّ عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم توجد منه صورة النّفاق، قاله الغزالي في "الإحياء" ) اهـ.

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي