الاثنين 29 ربيع الثاني 1432 هـ الموافق لـ: 04 أفريل 2011 11:50

- تفسير سورة البقرة (22) إعجاز القرآن الكريم

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد وقفنا مليّا مع قوله تبارك وتعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

ورأينا قول الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله:" أي ادعوا ناسا يشهدون لكم، أي يشهدون أنكم عارضتموه ".

فهذا فصل نرى من خلاله اعتراف أهل الفصاحة والبيان ممّن حاول معارضة القرآن بعجزهم، وقد حفظت لنا دواوين السنّة والسّيرة النبويّة كثيرا من ذلك، منها:

- ما رواه أبو نعيم في " دلائل النبوّة " عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:

"اجتمعت قريش يوما، فقال أبو جهل لعنه الله والملأ من قريش: التبس علينا أمر محمّد ! فلو ابتغيتم رجلا يعلم السّحر والكهانة والشّعر، فأتاه فكلّمه ثمّ أتانا ببيان من أمره.

فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السّحر، والكهانة، والشّعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى عليّ إن كان كذلك.

فأتاه، فلمّا خرج إليه قال له عتبة ابن ربيعة: والله لقد سمعت السّحر، والكهانة، والشّعر، وعلمت من ذلك علما، أنت يا محمّد خيرٌ أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطّلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فبم تشتم آلهتنا وتضلّل آباءنا، فإن كان بك الرّياسة عقدنا لك ألويتنا، وكنت رأسا ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختارها من أيّ بنات قريش شئت، وإن كان المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك بعدك. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يتكلّم.

وفي رواية عند ابن إسحاق عن محمّد بن كعب القُرظي: أنّ عُتبة قال مغتاظا وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد وحده: يا معشر قريش ! ألا أقوم إلى محمّد فأكلِّمه وأعرض عليه أمورا لعلّه يقبل بعضها، فنُعطيه أيّها شاء ويكفّ عنّا.

فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قُمْ إليه فكلّمه.

فقام إليه عتبة حتّى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا ابن أخي، إنّك منّا حيث علمت من السِّطة في العشيرة والمكان في النّسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعِبت به آلهتهم ودينهم، فاسمع منّي أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( قُلْ يَا أَبَا الوَلِيدِ أَسْمَعْ )).

قال: يا ابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتّى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذّي يأتيك رِئيا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ، وبذلنا فيه أموالنا حتّى نُبرئك منه.

فلمّا فرغ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( لَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الوَلِيدِ ؟ )) قال: نعم. قال: (( فَاسْمَعْ مِنِّي )). قال عُتبة: افعل.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

(({بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} [فصّلت].

فأمسك عتبة على فيه، يعني على في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وناشده بالرّحم أن يكفّ ! ورجع إلى أهله، فلم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم.

فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلاّ صبأ وأعجبه طعامه - يعني طعام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم -، وما ذاك إلاّ من حاجة أصابته، انطلِقوا بنا إليه.

فأتوه، فكلّموه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حبسك عنّا إلاّ أنّك قد صبوت إلى محمّد، وأعجبك أمره ! فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعامه ! قال: فغضب، وأقسم أن لا يكلّم محمّدا أبدا.

وقال: قد علمتم أنّي أكثر قريش مالا، ولكن أتيته فقصصت عليه القصّة، فأجابني والله بشيء ما هو شعر، ولا سحر، ولا كهانة، ثمّ قرأ:{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ..} إلى قوله:{صَاعِقَةٍ مِثْلِ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ..} فأمسكت على فيه، وناشدته بالرّحم أن يكفّ، وقد علمت أنّ محمّدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت.

وفي رواية قال:" فوالله ليكوننّ لقوله الّذي سمعتموه نبأٌ عظيمٌ، فإن تُصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعِزّه عزّكم، وكنتم أسعد النّاس به.

قالوا: سحرك - والله - يا أبا الوليد بلسانه.

قال: هذا رأي، فاصنعوا ما بدا لكم ".

- ومن ذلك أيضا ما رواه الحاكم والبيهقيّ[i] عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليه القرآن فكأنّه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال:

يا عمّ إنّ قومك يرون أن يجمعوا لك مالا. قال: لمه ؟ قال: ليعطوكه فإنّك أتيت محمّدا.

قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالا.

قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنّك منكرٌ له.

قال: وماذا أقول ؟ فو الله ما فيكم رجلٌ أعلمُ بالأشعار منّي، ولا أعلم برجزٍ ولا بقصيدة منّي، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الّذي يقول شيئا من هذا، ووالله إنّ لقوله الّذي يقول حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنّه ليحطّم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه. قال: فدعني حتّى أفكّر. فلمّا فكّر قال: " هذا سحر يؤثر يأثره من غيره".

فنزلت:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)}.

- وروى ابن إسحاق بسند مرسل - وله شواهد يتقوّى بها - أنّ أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي باللّيل في بيته، وأخذ كلّ رجل منهم مجلسا ليستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه.

فباتوا يستمعون له، حتّى إذا أصبحوا أو طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطّريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض:" لا تعودُنَّ، لو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا".

ثمّ انصرفوا، حتّى إذا كانت اللّيلة الثّانية عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطّريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة، ثمّ انصرفوا، فلمّا كانت اللّيلة الثّالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطّريق، فقالوا:" لا نبرح حتّى نتعاهد ألاّ نعود "، فتعاهدوا على ذلك.

ثمّ تفرّقوا، فلمّا أصبح الأخنس بنُ شريق أخذ عصا، ثمّ خرج حتّى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: حدِّثني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمّد.

فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وأشياء ما أعرف معناها، ولا ما يراد بها.

فقال الأخنس: وأنا - والّذي حلفت به - كذلك.

ثمّ خرج من عنده حتّى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيتَه، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيُك فيما سمعت من محمّد ؟

فقال: ماذا سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشّرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتّى إذا تجاثينا على الرّكب، وكنّا كفرسَيْ رِهان قالوا منّا نبيّ يأتيه الوحي من السّماء ! فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدّقه. فقام عنه الأخنس بن شريق.

- وقد سجّل لنا التّاريخ محاولات لبعض الأدباء، الّذين نُفِخت فيهم روح العُجب والغرور، فأرادوا أن يُعارِضوا الكريم، فانقلبوا بعدها خاسئين، وبعظمة القرآن معترفين:

- وممّن ذكروهم: عبد الله بن المقفّع، الّذي حاول مرارا أن يأتِي بمثل آية من القرآن، فكان في كلّ مرّة يعترف ببُعده عن ذلك، حتّى أتى عليه اليوم الّذي كتب فيها اسطُرا أخذت بلٌبّه، واستولَت على قلبه، ففتح القرآن فوقع على قوله تعالى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44]! فمزّق أوراقه باكيا قائلا: والله ما هذا بكلام البشر ولا يستطيعه أحد !

هذه الآيات الّتي يذكر العلماء أنّ بها ما يفوق ستّا وثلاثين فائدةً ! وقد أبدع في شرحها الجزريّ رحمه الله في كتابه " كفاية الألمعيّ في آية يا أرضُ ابلَعي ".

- ومنهم الفيلسوف الكندي: فقد حكى النقّاش أنّ أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيّها الحكيم، اعمل لنا مثل هذا القرآن ! فقال: نعم، أعمل مثل بعضه. فاحتجب أيّاما كثيرة، ثمّ خرج، فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحدٌ، إنّي فتحت المصحف، فخرجت سورة المائدة، فنظرت، فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النّكث، وحلّل تحليلا عامّا، ثمّ استثنى بعد استثناء، ثمّ أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلاّ في أجلاد !". [" تفسير القرطبيّ "].

وقد اختلف العلماء في وجه حصول الإعجاز، فمنهم من قال: إنّ الإعجاز واقع في النّظم، ومنهم من قال: في أخبار الأمم الماضية، ومنهم من قال في الأخبار الآتية، وبعضهم قال في العلوم الّتي حواها، والحقّ أنّ الإعجاز واقع في ذلك كلّه.

والله أعلم.



[i] وصحّحه ووافقه الذّهبي وصحّحه الشّيخ مقبل في "الصّحيح المسند من أسباب النّزول" (ص262) .

أخر تعديل في الاثنين 29 ربيع الثاني 1432 هـ الموافق لـ: 04 أفريل 2011 11:52
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي