وزاد رزين فيه:
(( وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُلَبِّي لِلَّهِ بِالحَجِّ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ مَا عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ الأَرْضِ )).
شــرح الحديـث:
سبق أن شرحنا معظم ألفاظ هذا الحديث فيما سبق، ووقفنا عند فوائده.
- قوله: ( يُلَبـِّي ): من التّلبية، ومعناها في اللّغة: الإجابة. ومعنى ( لبّيك ): ألبّيك تلبية بعد تلبية.
( تنبيه ): وليس المقصود من التّثنية في ( لبّيك ) حقيقتها، وإنّما هو أسلوب معروف في لغة العرب، وهو إطلاق المثنّى وإرادة الجمع والتّكثير. ومنه قوله تعالى:{ فَارْجِعْ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ }، أي: كرّات وكرّات. ومنه قولهم: ( سَعْدَيك ): أي: إسعادا بعد إسعاد.
ومنه قول المصلّي بين السّجدتين: " ربِّ اغفِر لي، ربِّ اغفِر لي "، أي: يقولها عدّة مرّات.
- أمّا قوله: ( شَهِدَ لَهُ مَا عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ الأَرْضِ ): فيه فضل الجهر بالتّلبية، وسيأتي تحقيق القول فيها قريبا إن شاء الله.
ونظير هذا الحديث: فضل الأذان، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
*** *** ***
الحديث الثّاني:
قال رحمه الله:
1134- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي، إِلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا، وَهَاهُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ )).
[رواه التّرمذي، وابن ماجه، والبيهقيّ كلّهم من رواية إسماعيل بن عيّاش عن عمارة بن غزيَّة عن أبي حازم عن سهل. ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" عن عَبِيدة-يعني ابن حميد-حدّثني عُمارة بن غزيّة عن أبي حازم عن سهل. ورواه الحاكم وقال: "صحيح على شرطهما "].
شــرح الحديـث:
- ( مَدَر ): هي قِطَعُ الطّينِ اليابِسِ، واحدته ( مَدَرَةٌ ).
وفي الحديث فضل الجهر بالتّلبية والمبالغة في ذلك، حتّى إنّ ما خلقه الله من الأحجار مدّ البصر ليُلبّي معه.
وقد يسأل سائل فيقول:
ما الّذي يستفيده المسلم من أن تلبّي معه الأحجار، وتردّد وراءه الأشجار وغير ذلك من المخلوقات ؟
الجواب من وجهين:
- الأوّل: أنّها تشهد له يوم القيامة بالتّوحيد، وطاعة ربّ العبيد سبحانه.
- الثّاني: قال السّندي رحمه الله:" .. أنّه يُكتب له أجر تلبية هذه المخلوقات، فصار المؤمن بالذّكر كأنّه دالّ على الخير، والله أعلم ".
*** *** ***
الحديث الثّالث والرّابع:
قال رحمه الله:
1135-وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ أَوْ التَّلْبِيَةِ )).
[رواه مالك، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والتّرمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"] .
وابن خزيمة في "صحيحه" وزاد ابن ماجه:
(( فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الحَجِّ )).
1136-وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( جَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السّلام، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ! مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ )).
[رواه ابن ماجه، وابن خزيمة وابن حبّان في "صحيحيهما"، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد"].
شـرح غريـب الحديـث:
- ( الإهلال ): قال العلماء: (الإهلال): رفع الصّوت بالتّلبية عند الدّخول في الإحرام.
وأصل الإهلال في اللّغة: رفع الصّوت، ومنه استهلّ المولود: أي صاح، ومنه قوله تعالى:{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ } أي: رفع الصّوت عند ذبحه بغير ذكر الله تعالى، وسمّي الهلال هلالا لرفعهم الصّوت عند رؤيته.
- ( شعار ): أي: علامة، ومنه قولهم: ليت شعري، أي: ليتني أعلم.
فـوائـد الحديـث:
- الفائدة الأولى: حكم رفع الصّوت بالتّلبية.
اختلف أهل العلم في حكم رفع الصّوت بالتّلبية على قولين:
- القول الأوّل: استحباب رفع الصّوت بها.
وهو قول عامّة العلماء وعليه المذاهب الأربعة.
["المبسوط" (4/188)، و"بدائع الصّنائع" (2/145)، و"المنتقى" للباجي (2/211)، و"الكافي" لابن عبد البرّ (1/365)، و"الأمّ" (2/156)، وروضة الطّالبين (3/73)، و"المغني" (3/257)، و"الإنصاف" (3/453)].
- القول الثّاني: أنّه فرض ولو مرّة واحدة، وهو قول ابن حزم في " المحلّى " (7/93)، واستدلّ رحمه الله:
- - بحديث الباب، ففيه قوله: ( فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ ).
- بما رواه البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: ( صَلَّى النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا ) أي: بالحجّ والعمرة.
- كلّ أحاديث التّلبية – ومرّ معنا بعضها وسيمرّ معنا غيرها - ذُكِر فيها رفع الصّوت والجؤار، ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم حين سُئِلَ: أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: (( الْعَجُّ وَالثَّجُّ )).
- ما رواه ابن أبي شيبة عن بكر بن عبد الله المزني قال:" كُنْتُ مَعَ ابنِ عُمَر رضي الله عنه، فلبَّى حَتَّى أَسْمَعَ ما بين الجبلين ".
- ما رواه ابن أبي شيبة عن المطّلب بن عبد الله قال:" كَانَ أصحَابُ رسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بالتَّلبِيَة حتّى تُبَحَّ أصوَاتُهُم ".
وحمل الجمهور هذه الأحاديث والآثار على الاستحباب.
أمّا الحديث الّذي فيه أمر جبريل عليه السّلام النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بأن يأمر أصحابه بذلك، فناقشه العلماء أنّ المقرّر عند أكثر علماء الأصول ( أنّ الأمر بالأمر بالشّيء ليس أمرا به )، كما في "المستصفى" (2/13)، و"شرح الكوكب المنير" (3/66).
قالوا: ونظير ذلك ما رواه التّرمذي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا أَمَرُوهُ أَنْ: (( مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ )) وهذا لا يدلّ على وجوب الحجامة، فهو أمر إرشاد لا أمر إيجاب.
والتّنظير بالحديث قويّ، ولكن الإطلاق الوارد في القاعدة المذكورة ( أنّ الأمر بالأمر بالشّيء ليس أمرا به ): فيه نظر وبحثٌ طويل.
- الفائدة الثّانية: حكم رفع المرأة صوتها بالتّلبية.
- فمذهب الجمهور على أنّها تُسمِع نفسها.
- وخالفهم ابن حزم أيضا فقال: يجب عليها أن ترفع صوتها ولو مرّة واحدة.
واستدلّ بعموم الحديث.
وبفعل عائشة رضي الله عنها، ففي مصنّف ابن أبي شيبة أنّها كانت ترفع صوتها حتّى تُسمع غيرها.
وقد ردّ عليه النّووي في " المجموع " (7/241)، وابن قدامة في " المغني " (3/331)، وغيرهما من وجهين:
- أنّ مبنى المرأة على السّتر.
- وأنّ نظير ذلك أذانها، وإقامتها، وفتحُها على الإمام بالتّصفيق.
لذلك نقل ابن عبد البرّ الإجماع على أنّها تُسمِعُ نفسها.
والصّواب: هو التوسّط بين المذهبين، عملا بالنّصوص الواردة في ذلك، وهو أنّها ترفع صوتها حتّى تُسمِع رفيقاتها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [" مجموع الفتاوى "26/115].
2-الفائدة الثّالثة: استحباب وضع الأصبع في الأذن عند رفع الصّوت بالتّلبية.
فقد مرّ معنا في الحديث الرّابع من الباب السّابق قوله صلّى الله عليه وسلّم:
(( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى صلّى الله عليه وسلّم - فَذَكَرَ مِنْ طُولِ شَعَرِهِ شَيْئًا لَا يَحْفَظُهُ دَاوُدُ - وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي )).
وشرع من قبلنا شرع لنا، حتّى يأتي الدّليل الصّارف عن ذلك.
ونظير ذلك الأذان، فقد روى التّرمذي وأحمد والحاكم والدّارمي عن أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه: ( أَنَّ بِلَالًا رضي الله عنه رَكَزَ الْعَنَزَةَ ثُمَّ أَذَّنَ وَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فَرَأَيْتُهُ يَدُورُ فِي أَذَانِهِ ) [" الإرواء " (1/248)].
*** *** ***
الحديث الخامس والسّادس:
1137-وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطْ وَلاَ كَبَّرَ مكَبِّرٌ قَطْ إِلاَّ بُشِّرَ )).
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! بِالجَنَّةِ ؟ قَالَ:
(( نَعَمْ )).
[رواه الطّبراني في "الأوسط" بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصّحيح].
1138-وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:
(( الْعَجُّ وَالثَّجُّ )).
[رواه ابن ماجه، والتّرمذي، وابن خزيمة في "صحيحه" كلّهم من رواية محمّد بن المنكدر عن عبد الرّحمن بن يربوع، وقال التّرمذي: "لم يسمع محمّد من عبد الرّحمن".
ورواه الحاكم وصحّحه، والبزّار، إلاّ أنّه قال:
مَا بَالُ الحَجِّ ؟ قَالَ: (( العَجُّ وَالثَّجُّ )).
قال وكيع: " يعني بـ( العجّ ) العجيج بالتّلبية، و( الثّج ): نحر البُدْنِ " وتقدم.