الأحد 06 محرم 1432 هـ الموافق لـ: 12 ديسمبر 2010 17:07

- شرح الأسماء الحُسنَى (19) مفاتيـح الرّزق الحـلال 1

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد رأينا في شرح الاسمين الكريمين (الرزّاق، والرّازق)، أنّ الرّزق نوعان:

أ‌) رزق القلوب، وهو العلم النّافع الّذي يُثْمِر العمل الصّالح، وذكرنا أنّه ينبغي للمسلم أن يُسارع إلى كسبه، ويسابق إلى طلبه.

ب‌) ورزق الأبدان، فعلى الإنسان أن يُحْسِن طلب الحلال الّذي لا تَبِعَة فيه، وليعلم أنّ أبواب الرّزق الحلال كثيرة، وكيف لا وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: (( لَوْ فَرَّ أَحَدُكُمْ مِنْ رِزْقِهِ، لأَدْرَكَهُ كَمَا يُدْرِكُهُ المَوْتُ ))[1].

فالأرزاق لها أبواب، لا بدّ من طرقها، والاستئذان لأخذها، وهو الطّريق الحلال، وما أجمل ما رواه الطّبراني في "المعجم الكبير"، والبزّار في "مسنده" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي: أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ )).

فالّذي نهاك عن الاقتراب من باب الحرام، هو الّذي ضمن لك الرّزق مدى الأيّام.

وانظر إلى قول الله تبارك وتعالى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذّاريات:23] أكّده بقوله:{مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قال بعض الحكماء: كما أنّ كلّ إنسان ينطق بنفسه، ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كلّ إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره، وقال الحسن: قاتل الله أقواما أقسم لهم ربّهم بنفسه ولم يصدّقوه.

وقال الأصمعيّ رحمه الله: أقبلت ذات مرّة من مسجد البصرة، إذ طلع أعرابيّ جلف جاف على قَعُودٍ له متقلّدا سيفَه، وبيده قوسُه، فدنا وسلّم، وقال: ممّن الرّجل ؟ قلت: من بني أصمع. قال: أنت الأصمعيّ ؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت ؟ قلت: من موضع يُتلَى فيه كلام الرّحمن. قال: فَاتْلُ عليّ منه شيئا. فقرأت:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} إلى قوله:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} فقال: يا أصمعيّ ! حسبك.

ثمّ قام إلى ناقته، فنحرها، وقطعها بجلدها، وقال: أعنّي على توزيعها. ففرّقناها على من أقبل وأدبر، ثمّ عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرَّحل وولّى نحو البادية، وهو يقول:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فمقتُّ نفسي، ولمتُها.

ثمّ حججت مع الرّشيد، فبينما أنا أطوف، إذا أنا بصوت رقيقٍ، فالتفتّ، فإذا أنا بالأعرابيّ وهو ناحل مصفرّ، فسلّم عليّ، وأخذ بيدي، وقال: اتل عليّ كلامَ الرّحمن. وأجلسني من وراء المقام، فقرأت:{وَالذَّارِيَاتِ} حتّى وصلت إلى قوله تعالى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فقال الأعرابيّ: لقد وجدنا ما وعدنا الرّحمن حقّا. وقال: وهل غيرُ هذا ؟ قلت: نعم يقول الله تبارك وتعالى:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذّاريات:23]، قال: فصاح الأعرابيّ، وقال: يا سبحان الله ! من الّذي أغضب الجليل حتّى حلف ؟! ألم يصدّقوه في قوله حتىّ ألجئوه إلى اليمين ؟! فقالها ثلاثا، وخرجت بها نفسه ".

يقول الله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60]، قال ابن كثير: أي لا تطيق جمعه ولا تحصيله، ولا تدّخر شيئا لغد {اللهُ يَرْزُقُهَا}: أي يقيّض لها رزقها على ضعفها وييسّره عليها، فيبعث إلى كلّ مخلوق من الرّزق ما يُصلحه حتّى الذرّ في قرار الأرض، والطّير في الهواء، والحيتان في الماء.

مفاتيح الرّزق الحلال:

1) تقوى الله تبارك وتعالى، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، وقال:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: من الآية66]، وقال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب (3)} [الطّلاق]، وقال:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجـنّ:16].

ثمّ تأذّن الله بالمزيد لمن شكر فقال:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: من الآية7]..

2) الإكثار من الدّعاء وسؤال الله تعالى من فضله:

وذلك في كلّ وقت، وخاصّة في مواطن الطّاعات وأوقات مظانّ الإجابة، وهو سبحانه القائل:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} [النساء: من الآية32]..

فمن سؤاله من فضله في كلّ وقت، ما رواه الترمذي وأحمد عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي، فَأَعِنِّي ! قَالَ: " أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ ؟ قَالَ:

(( قُلْ اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ )).[جبل صِير: جبل في طَيْء].

ومن الأمثلة في مواطن الطّاعات ومظانّ الإجابة:

- الحرص على الاستخارة، وهو يعقد عقد صناعة أو تجارة:

فقد روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: (( إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ ...)) الحديث.

- وعند الخروج من المسجد: روى مسلم عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ )). 

- وعند سماع الدّيك، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا )). 

قال الحافظ رحمه الله:" قوله: ( فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكاً ) كان السّبب فيه رجاءَ تأمين الملائكة على دعائه واستغفارهم له، وشهادتهم له بالإخلاص، ويؤخذ منه استحباب الدّعاء عند حضور الصّالحين تبرّكا بتأمينهم.

3) الحرص على الأذكار: روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ:

(( إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا عليه السّلام لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ، آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنْ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ.

وَأَنْهَاكَ عَنْ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ ...)) الحديث.

وصدق صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ الله تعالى يقول:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46]، وجاء تفسير هذه الباقيات الصّالحات في مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اسْتَكْثِرُوا مِنْ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ !)) قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ !؟ قَالَ: (( التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ )).

4) ومن أسباب الرّزق الحلال الحرص على الصّلاة:

قال عزّ وجلّ مبيّنا سبب انصراف النّاس عن الصّلاة:{وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طـه:131].. ثمّ قال:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طـه:132]، فانظر كيف بيّن أنّ الرّزق الحلال لا طريق إليه إلاّ بإقام الصّلاة والصّبر عليها، وأمر الأهل بها..

ومن أعجب الآيات الّتي ينبغي لنا الوقوف أمامها آيات من سورة مريم، وآيات من سورة هود، وآية من سورة البقرة:

- أمّا سورة مريم: فقوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59]، فهذا ذمّ ووعيد شديدان لمن أضاع الصّلاة، ثمّ قال:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم:60]، أي: إلاّ من انتهى عن إضاعة الصّلاة فأولئك يدخلون الجنّة {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً}..ولكن..ما ثواب من أقام صلاته فيها ؟ قال تعالى:{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:62].

فقد ذكر عزّ وجلّ الرّزق الرّغِد لأنّه علم سبحانه أنّ طلب الرّزق هو أعظم ما يصرف النّاس عن عبادته..قال العلماء:" ليس في الجنّة بكرة وعشيّة، ولكنّ ذلك كناية على دوام الرّزق فيها وأنّه لا ينقطع "..

- أمّا في سورة هود، فتأمّل قول أنبياء الله تعالى نوح، وصالح، وشعيب، وضع يدك على الفرق بين كلامهم، وكلام أعدائهم..

أمّا نوح عليه السّلام فقال:{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28].

وقال نبيّ الله صالح عليه السّلام:{يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:63]..

وقال نبيّ الله شعيب عليه السّلام:{يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} [هود: من الآية88].. فذكر الرّزق، ولنا أن نتساءل عن سبب ذلك ؟

الجواب: لأنّ المعركة كانت بينه وبين قومه قائمة على الرّزق، فهم كانوا ينقصون المكيال والميزان طلبا للغنى، وكأنّه كان أغنى منهم، وسبب ذلك تأخذه على لسان أعدائه:{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]..فهم يتعجّبون من نهيه لهم عن التّطفيف في الميزان والمكيال، وكثرة رزقه، فلم يجدوا تفسيرا لذلك إلاّ حرصه على الصّلاة..

ولكنّ أكثر النّاس لا يفقهون أنّ الصّلاة من أعظم أسباب الرّزق، حالهم حال قوم شعيب إذ قالوا:{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود: من الآية91]..

- أمّا في سورة البقرة: فتأمّل كلام الله تعالى عن الطّلاق، وذلك في سبعة عشر آية، من الآية 225 إلى الآية 242، والطّلاق يحيط به دفع مال أو تنازل عنه، فتجب النّفقة على المطلّقة طيلة عدّتها، وتجب لها المتعة، هذا في المدخول بها، أمّا غير المدخول بها فإنّه يتنازل عن نصف المهر، وأمّا لو كانت الفرقة خلعا فإنّ المرأة تردّ له مهره كلّه، ولا يدلّ على حرص كلّ من الطّرفين على المال في ذلك مثل قوله تعالى:{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ} [النساء: من الآية128]..

فتأمّل دواء الله تعالى لهذه المسألة.

ابتدأ الكلام حول الطّلاق في الآية 225، وقطع الكلام عنه في الآية 237، ثمّ استأنف الكلام عنه في الآية 239..فماذا قال الله تعالى بين ذلك ؟!

إنّه قال:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)} !

ولو استعمل أحدٌ من البشر هذا الأسلوب لعُدّ من الخارجين عن الموضوع لا شكّ في ذلك ..

لكن إذا علمنا أنّ هذا كلامُ الله تعالى أدركنا أنّ فيه علاجا لقضيّة الشحّ، فحتّى لا يجحد الرّجل حقّ المرأة، ولا تتعسّف المرأة في حقّ الرّجل، ذكّر الله تعالى بما يبسط الله به الرّزق على عباده، وهو الصّلاة..

- وتأمّل حال مريم عليها السّلام، قال الله في حقّها:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: من الآية37].. فكان يأتيها رزقُها وهي في محرابها موضعِ صلاتها.

ولفظة (كلّما) تفيد التّكرار، فأدرك نبيّ الله زكريّا عليه السّلام ذلك، فقال تعالى:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]، فأين استجاب الله له ؟ وأين رزقه الله تعالى الولد ؟

قال تعالى:{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:39].

- وتأمّل أيضا حال إبراهيم عليه السّلام وهو منصرف عن أهله قائلا:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، فما طلب الرّزق لأهله حتّى ذكر الشّرط، وهو إقام الصّلاة، فسخّر الله تعالى لأهله عينا ماؤها طعام طعم وشفاء سقم..

إذا تأمّلت ذلك كلّه، فانظر حواليك إلى من صاروا يُضيّعون صلواتهم بحجّة العمل والسّعي وراء القوت ! فانقلبت الموازين، وضاعت المفاهيم، واندثرت عقيدة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وإبراهيم، وشعيب، وزكريّا، ومريم في عقر ديارهم ! فلا جرم أنّه صدق عليهم ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ )) قَالَ البخاري: وترت الرّجلَ: إذا قتلتَ له قتيلا أو أخذْت له مالا.

( يتبع إن شاء الله )



[1] رواه الطبراني في " الأوسط "، وهو في " صحيح الترغيب والترهيب " (1704).

أخر تعديل في الجمعة 10 جمادى الثانية 1432 هـ الموافق لـ: 13 ماي 2011 05:07
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي