ولكن نصّ أهل العلم أنّه خلاف الأولى، وهو تعجيلُ الفطر.
2- النّوع الثّاني: وِصال إلى اللّيلة التّالية:
أي: يبقَى صائما إلى أن تغرُب شمس الغد، أو يصوم أيّاما متتالية فلا يفطر بينها.
فهذا النّوع قد اتّفق العلماء على أنّه مباح للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ اختلفوا في إباحته لغيره على قولين:
أ) فالجمهور على أنّه حرام، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشّافعيّ رحمهم الله، وأنّه خاصّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ويدلّ على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال:
( نَهَى رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ الْوِصَالِ )، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ !؟ قَالَ: (( وَأَيُّكُمْ مِثْلِي ؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي )).
فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ، فَقَالَ: (( لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ )) كَالمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا.
وروى البخاري ومسلم أيضا عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: ( نَهَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ )، فقالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ ؟ قال: (( إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ؛ إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ )).
قالوا: هذا نهي، والأصل في النّهي هو التّحريم.
ب) وبعضهم قال بالكراهة فقط، وهو قول عبد الرّحمن بن أبي ليلى، والإمام أحمد، وأبي الجوزاء، وابن المنيّر، وآخرين.
واستدلّوا على ذلك:
- أوّلا: بقول عائشةَ رضي الله عنها في الحديث الصّابق: ( نَهَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ ), فأراد بالنّهي الرّحمة لهم، والتّخفيف عنهم.
- ثانيا: أنّه صلّى الله عليه وسلّم واصل بأصحابه بعد النّهي, فهو نهي إرشاد، ولو كان النّهي للتّحريم لما أقرّهم على فعلهم.
- ثالثا: ما رواه أبو داود عن عبدِ الرّحمنِ بنِ أبي ليلَى قال: حدّثنِي رجلٌ من أصحابِ النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ( نَهَى عَنْ الْحِجَامَةِ، وَالْمُوَاصَلَةِ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا إِبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ ).
- رابعا: قد ورد عن جماعة من الصّحابة أنّهم كانوا يواصلون، حتّى إنّ عبد الله بن الزّبير كان يواصل خمسة عشر يوماً. رواه عنه ابن أبي شيبة في " المصنّف "، ورواته كلّهم ثقات.
و قد أجاب الجمهور عن هذه الأدلّة، فقالوا:
- أوّلا: قول عائشة رضي الله عنها: ( رَحْمَةً لَهُمْ ) لا يمنع القول بالتّحريم؛ فإنّ من رحمته لهم أن حرّمه عليهم، وما من شيء حرّمه الله على عباده إلاّ وهو رحمة لهم.
- ثانيا: أمّا مواصلته صلّى الله عليه وسلّم بهم بعد نهيِه، فلم يكُن تقريرا بل تقريعا وتنكيلا, واحتمل ذلك منهم لأجل مصلحة النّهي في تأكيد زجرهم؛ لأنّهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمةُ النّهي، وكان ذلك أدعى إلى وعظهم.
ونظير ذلك: ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعريّ قال: سُئلَ النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: (( سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ !)). فقالَ رجلٌ: مَنْ أَبِي ؟ قال: (( أَبُوكَ حُذَافَةُ ))، فَقَامَ آخَرُ، فَقال: مَنْ أَبِي يا رسولَ اللهِ ؟!، فقالَ: (( أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ )).
فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ، قالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عزّ وجلّ ".
فالتكلّف في السّؤال محرّم، ومع ذلك قال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( سَلُونِي )), فكان عقوبة لهم و تنكيلا، كذلك الوصال.
- ثالثا: أمّا حديث عبد الرّحمن بن أبي ليلى، فيُحمل على الوِصال إلى السّحر، فذاك الّذي نهى عنه، ثمّ رخّص فيه.
- رابعا: أمّا فعل عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه، فليس حجّةً، وإنّما الحجّة قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويحتمل أنّه لم يبلُغه النّهي، أو بلغه وتأوّله.
الحاصل:
أنّ الوِصال إلى السّحر جائز، وإلى اللّيلة التّالية أو ما زاد على ذلك فهو من خصائص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا يُشرع لأمّته.
فوائد:
1- يستفاد من أحاديث هذه المسألة أنّ الأصل هو الاقتداء بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، مالم يرد دليل على الخصوصيّة.
2- قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ )): هذا الطّعام والشّراب ليس حسّياً، وإنّما مرادُه صلّى الله عليه وسلّم: أنّ الله تعالى يُقوّيه على ذلك؛ فالّذي يحصل له من المعرفة بربّه، والاشتغال بذكره، والمداومة على عبادته، يُغنِيه عن الطّعام وعن الشّراب.
3- شدّة رأفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالأمّة؛ حيث نهاهم عن الوصال لئلاّ يشقّ عليهم، مصداقا لقول الله جلّ وعلا:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التّوبة: 128].
4- قال الحافظ رحمه الله:" تمسّك ابن حبّان بظاهر الحال، فاستدلّ بهذا الحديث على تضعيف الأحاديث الواردة بأنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يجوع ويشدّ الحجر على بطنه من الجوع ! قال: لأنّ الله تعالى كان يُطعِم رسولَه ويسقيه إذا واصل، فكيف يتركه جائعا حتّى يحتاجَ إلى شدّ الحجر على بطنه ؟
ثمّ قال: وماذا يُغْنِي الحجر من الجوع ؟ ثمّ ادّعى أنّ ذلك تصحيفٌ ممّن رواه، وإنما هي: ( الحجز ) - بالزّاي - جمع حجزة.
وقد أكثر النّاس من الردّ عليه في جميع ذلك, وأبلغ ما يردّ عليه به أنّه أخرج في صحيحه من حديث ابن عبّاس قال:" خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالهاجرة، فرأى أبا بكر وعمر فقال: (( مَا أَخْرَجَكُمَا ؟)) قالا: ما أخرجنا إلاّ الجوع ! فقال: (( وَأَنَا -وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- مَا أَخْرَجَنِي إِلاَّ الجُوعُ )) الحديث.
فهذا الحديث يردّ ما تمسّك به.
وأمّا قوله: وما يغني الحجر من الجوع ؟ فجوابه: أنّه يُقِيم الصُّلْبَ؛ لأنّ البطن إذا خلا ربّما ضعُف صاحبه عن القيام لانثناء بطنه عليه, فإذا ربط عليه الحجر اشتدّ وقَوِيَ صاحبُه على القيام, حتّى قال بعض من وقع له ذلك: كنت أظنّ الرّجلين يحمِلان البطنَ, فإذا البطنُ يحمل الرّجلين "اهـ.
والله أعلم.