- وأمّا التّقوى، فيقول الإمام مالك رحمه الله:" لا أعلم للعلم أنفع من الصّلاح ".
وإنّ للمعصية شؤما يقضي على العلم، وقد أضاع اليهود والنّصارى كتبهم وعلمهم لأجل شؤم المعصية، فإن شابهناهم في العمل شابهناهم في ذهاب العلم.
- قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" إنّي لأعلم أنّ الرّجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها ".
- وقيل لسفيان بن عيينة رحمه الله: بم وجدت الحفظ ؟ قال:" بترك المعاصي ".
ويقابل هجر المعاصي فعل الطّاعات، فلا أنفع منها لحفظ العلم، وعلى رأس الطّاعات:
9- التقلّل من الدّنيا: لأنّ القلب لا بدّ أن يجتمع على الشّيء ليفقهه ويُتـقِـنه.
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه كان يقول كما في صحيح البخاري:" إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ ! وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا. ثُمَّ يَتْلُو:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى..} الآية، إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ ".
قال الحافظ رحمه الله وهو يذكر فوائد الحديث:" وفيه: أنّ التقلّل من الدّنيا أمكن للحفظ ".
إنّ الانبساط إلى الدّنيا، والأكل الكثير، والنّوم الكثير، كلّ هذا يحرُم طالبَ العلم نعمة الحفظ؛ لأنّ كثرة الطّعام تجعل القلب مشغولا منهمكا، لا يجتمع على ما يريد، وهذا ممّا يفسد مزاج الإنسان، وما فسد المزاج إلاّ وفسد القلب.
10- الاهتمام بالغذاء المناسب:
كان السّلف - زيادةً على زهدهم وتقليلهم من الأكل - يهتمّون بأنواع من الغذاء، ويجتنبون أنواعا أخرى، فممّا يزيد في قوّة الحافظة: العسل، والحبّة السّوداء، والرمّان الحلو.
وكانوا يجتنبون الأشياء الحامضة، حتّى كان الزّهري يجتنب التفّاح الحامض، وكان الشّيخ الشنقيطي - كما يقول أحد أبنائه - يزجرهم زجرا شديدا إذا رأى مع أحدهم لبنا حامضا.
وذكر الأطبّاء أنّ الإكثار من الباذنجان يُضعِف الذّاكرة.
ومن الأسباب المعينة على الحفظ "الحجامة"، وما ذلك إلاّ لأنّها تُذهب الأخلاط عن البدن.
11- الدّعاء وذكر الله عزّ وجلّ: فهو من أدوية النّسيان.
قال الله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}. سواء كان النّسيان بمعنى الغفلة، أو بمعنى فقد المحفوظ. ولو واظب العبد على أذكار الصّباح والمساء، ودعا ربّ الأرض والسّماء، لوفّقه الله تعالى إلى حفظ العلم.
وكان العلماء إذا شربوا من ماء زمزم يدعون الله تعالى التّوفيق إلى حفظ العلم لما يعلمون أنّ القليل من وُفّق إليه، عملا بالحديث الذي رواه ابن ماجه وأحمد وغيرهما عن جَابِر بن عبدِ اللهِ رضي الله عنه يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ )).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وقد شربت منه ودعوت الله أن يُبلّغني مرتبة الإمام الذّهبي في الحفظ ".
12- رفع الصّوت بالقراءة:
فلا بدّ من السّماع، فإنّ منفذ السّمع أقوى وأشدّ من منفذ البصر، والشّيء المسموع يرسخ في الذّهن أكثر من الشّيء المقروء؛ لذلك كانت حلقات الذّكر أكثر نفعا من دراسة المرء منفردا، لأنّ فيها السّماع.
قال الزّبير بن بكّار رحمه الله: دخل عليّ أبي وأنا أنظر في دفتري بيني وبين نفسي ولا أجهر، فقال:" إنّما لك من روايتك هذه ما أدّى بصرك إلى قلبك، فإذا أردت الرّواية فانظر إليها واجهر بها ".
وعن أبي حامد كان يقول لطلّابه:" إذا درستم فارفعوا أصواتكم؛ فإنّه أثبت للحفظ وأذهب للنّوم ". وكان يقول:" القراءة الخفيفة للفهم، والرّفيعة للحفظ ".
والعلم الحديث أثبت أنّه كلّما اشتركت الحواسّ أكثر كان الحفظ أممن وأكثر.
13- حسن توزيع الأوقات:
فإنّ وظائف طالب العلم كثيرة، فهو يحتاج إلى أن يقرأ، إلى أن يحفظ، إلى أن ينسخ، وربّما احتاج إلى الإلقاء والتّدريس، فلا بدّ من حسن توزيعه لأوقات ذلك كلّه اجتنابا للفوضى.
قال ابن الجوزيّ رحمه الله:" ولمّا كانت القوّة تكلّ وتضعف، وكان لا بدّ من النّسخ والتّصنيف والمطالعة، وجب تقسيم الزّمان إلى ذلك، ولا ينبغي الغبن من أحذ الشّركاء، فلو أخذ أحدهم أكثرَ من حقّه ظهر الفساد، ومع العدل والإنصاف يتأتّى كلّ مراد ".
إذن فحسن توزيع الوظائف على الأوقات من الأمور المهمّة، وإذا سألت عن الأوقات المستحسنة للحفظ، فقد ذكر أهل العلم أنّ:
- أفضلها: وقت الأسحار، وأوّل النّهار، وأوقات الجوع خير من أوقات الشّبع.
- وقال أحدهم ينصح ولده: أحبّ لك النّظر باللّيل، فإنّ القلب بالنّهار طائر وباللّيل ساكن.
- وقال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله:" المطالعة باللّيل أفضل لخلوّ القلب، فإنّ خلوّ القلب يسرع إليه الحفظ ".
- وقال عبد الرزّاق رحمه الله:" كان سفيان الثّوري عندنا ليلة، وسمعته يقرأ من اللّيل وهو يصلّي، فقضى جزءه من الصّلاة، ثمّ قعد، وجعل يقول: الأعمش .. منصور .. المغيرة .. الأعمش .. منصور .. المغيرة .." ! فقلت له: يا أبا عبد الله ما هذا ؟ قال: هذا جزئي من الصّلاة، وهذا جزئي من الحديث ".
وقال الشّافعيّ رحمه الله:" الظّلمة أجلى للقلب ".
وقال أحمد بن الفرات رحمه الله:" لم أزل أسمع شيوخنا يذكرون أشياء في الحفظ، فأجمعوا على أنّه ليس شيء أبلغ فيه من كثرة النّظر، وحفظ اللّيل غالب على حفظ النّهار ".
وقال إسماعيل بن أبي أويس رحمه الله:" إذا هممت أن تحفظ شيئا فنَم وقم عند السّحر، وأسرج سراجك، وانظر في الكتاب، فإنّك لن تنساه بإذن الله "؛ ذلك لأنّه إذا نام مبكّرا، واستيقظ بذهن صاف لم يسمع من كلام النّاس شيئا قبيل الفجر، فهذا أصفى أوقات الحفظ على الإطلاق.
وقال ابن جماعة رحمه الله: الخامس في آداب المتعلّم في نفسه: أن يقسّم أوقات ليله ونهاره، وأن يغتنم ما بقي من عمره، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللمطالعة والمذاكرة اللّيل، وللكتابة وسط النّهار ".
وقيل لأحدهم: بم أدركت العلم ؟ قال:" بالمصباح، والجلوس إلى الصّباح ".
أمّا أماكن الحفظ: فقالوا في المكان العالي أحسن من الأسفل، لأنّ الغالب على المكان العالي أن يكون خاليا، لا تكثر عليه المارّة، وأصحاب الحاجات. وكلّ موضع بعيد عمّا يُلهي فإنّه يكون أنفع للقلب. والخلوة لجمع الهمّ أصل من أصول الحفظ.
[انظر محاضرة الشّيخ محمّد صالح المنجد حفظه الله:" طالب العلم والخفظ "].
والله الموفّق لا ربّ سواه.