الأربعاء 06 شوال 1431 هـ الموافق لـ: 15 سبتمبر 2010 12:37

- شرح " كِتَـابُ الحَـجِّ " (1) مقدّمات مهمّة

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

فأضع بين أيدي الإخوة الكرام والأخوات الكريمات شرح كتاب الحجّ من " صحيح التّرغيب والتّرهيب " للإمام المنذريّ رحمه الله، بتحقيق لؤلؤة الشّام وحسنة الأيّام الشّيخ محمّد ناصر الدّين الألباني رحمه الله.

وذلك لأنّ المسلمين على أبواب هذا المنسك العظيم، حجّ بيت الله تبارك وتعالى، فلا أنسب من أن نتدارس ما جاء فيه من النّصوص الكثيرة، والفضائل الغزيرة.

الدّرس الأوّل.

قال رحمه الله: ( كِتَـابُ الحَـجِّ ).

الشّرح:

أوّلاً: التّعريف بالحجّ:

الحجّ لغة: قال ابن منظور رحمه الله: "الحجّ: القصد، حجّ إلينا فلان أي: قدم، وحجّه يحُجُّه حجًّا: قصد، وحججتُ فلاناً واعتمدته أي: قصدته، ورجل محجوج أي: مقصود" ["لسان العرب" (3/52)].

ومنه الطّريق المقصود سمّي محَجَّة، ومنه الدّليل المقصود سمّي حجّة.

-أمّا الحجّ شرعا: فهو: قصد بيت الله تعالى بصفة مخصوصة، في وقت مخصوص، بشروط مخصوصة.

[" التّعريفات " للجرجاني (ص 111)، وانظر: " مغني المحتاج " للشّربيني (1/459)، و" شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (1/472)].

ثانيا: تعظيم مكانة الحجّ:

دلّ الكتاب والسنّة والإجماع على تعظيم الحجّ ورفع منزلته، حتّى صار وجوب الحجّ معلوما من الدّين بالضّرورة، وهو واجب مرّة واحدة في العمر.

أمّا دليل الكتاب: فقوله تعالى:{وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَـاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ} [آل عمران:97].

قال ابن العربيّ المالكيّ:" قال علماؤنا: هذا من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العربيّ: لفلان عليّ كذا فقد وكّده وأوجبه، قال علماؤنا: فذكر الله سبحانه الحجّ بأبلغِ ألفاظ الوجوب، تأكيداً لحقّه، وتعظيماً لحرمته، وتقوية لفرضه " ["أحكام القرآن" (1/285)].

وقال القرطبي رحمه الله: "فذكر الله الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته، ولا خلاف في فريضته، وهو أحد قواعد الإسلام، وليس يجب إلاّ مرّة في العمر "[" الجامع لأحكام القرآن " (4/142)].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

" وحرفُ (على) للإيجاب، لا سيما إذا ذكر المستحقّ فقيل: لفلان على فلان، وقد أتبعه بقوله:{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ} ليبيّن أنّ من لم يعتقد وجوبه فهو كافر، وأنّه وضع البيت وأوجب حجّه {لِيشْهَدُواْ مَنَـافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، لا لحاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه؛ لأن الله غني عن العالمين "[" شرح العمدة " (1/76- المناسك)].

فبلاغة هذه الآية ظاهرة من وجوه عديدة:

أ) أنّ اللاّم للاستحقاق كما بيّنه شيخ الإسلام.

ب) أنّه قدّم الجار والمجرور لإفادة التّوكيد تعظيما لحرمة هذا الواجب، وترهيبا من تضييعه.

ج) أنّه أتى بحرف الجرّ الدالّ على الإلزام.

د) نكّر السّبيل للإطلاق، فعلى أيّ سبيل أمكن وجب.

هـ) وسمّى تركه كفرا، قال سعيد بن جبير رحمه الله: " لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحجّ لم أُصلِّ عليه ".

و) وأنّ الله غنيّ عن طاعة عبده إذا تركها، حميد له إن فعلها، ولم يقل: ( غنيّ عنه ) ولكنّه قال: (غنيّ عن العالمين).

وأمّا دليل السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على ذلك منها:

1- عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانِ )) [البخاري ومسلم].

2- حديث جبريل عَلَيْهِ السَّلاَمُ المشهور وفيه: ما الإسلام ؟ قال صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنْ اِسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) الحديث [رواه مسلم].

3-عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: خطبنا رسول الله صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ الحَجَّ فَحُجُّوا )) فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله ؟ فسكت حتّى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَوْ قُلْتَ: نَعْمَ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ )) [رواه مسلم].

وأمّا دليل الإجماع: فقال ابن المنذر رحمه الله:" وأجمعوا أنّ على المرء في عمره حجّة واحدة " ["الإجماع"ص16]، وممّن نقله كذلك ابن عبد البرّ في "التّمهيد" (21/52)، وابن قدامة في "المغني" (5/6)، وابن تيمية في "شرح العمدة" (1/87  المناسك)، وغيرهم رحمهم الله تعالى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فكل من لم يَر حج البيت واجباً عليه مع الاستطاعة فهو كافر باتفاق المسلمين" [التفسير الكبير لابن تيمية (3/227)].

ويستحبّ الحجّ كلّ عام.

ويُكره تركُه أكثر من خمس سنوات، فقد روى ابن حبّان عن أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنّ رسول الله صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( يَقُولُ اللهُ: " إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي المَعِيشَةِ تَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لاَ يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ" !! )).

ثالثا: متى فرض الحجّ ؟

اختلف العلماء في ذلك، فقيل: فرض سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة عشر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وسورة آل عمران إنما نزل صدرها متأخراً لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر، وفيها فرض الحج، وإنما فرض سنة تسع أو عشر، لم يفرض في أول الهجرة باتفاق "[" التفسير الكبير " (7/471)].

قال ابن القيم رحمه الله: "لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر. ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحج من غير تأخير. فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر " [" زاد المعاد " (2/101)، وانظر:" الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (4/144)، و" الروض المربع " (3/499)].

رابعا: شروط وجوب الحجّ.

اعلم أنّ شروط الحجّ خمسة، أربعة مشتركة بين الرّجال والنساء، وواحد خاصّ بالنّساء:

1) العقل.

2) البلوغ.

3) الحرّية.

فلو حجّ المجنون، والصّبيّ، والعبد، صحّ حجّهم، لكن لو أفاق المجنون، وبلغ الصّبيّ، وأعتق العبد، وجب عليه الحجّ مرّة أخرى عند جميع العلماء، وذلك لما رواه الطّبراني في " الأوسط "، والحاكم، والبيهقيّ عن ابن عبّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنّ النبيّ صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( أيّما عبدٍ حج ثمّ عتق فعليه حجّة أخرى، وأيّما صبيّ حجّ ثمّ بلغ الحنث فعليه حجّة أخرى.. )) ["إرواء الغليل" (4/156)].

4) القدرة: والمقصود بالقدرة صحّة البدن، والزّاد والرّاحلة  للعاجز.

5) وجود المحرَم، وهو خاصّ بالمرأة، وهذا مذهب الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة، خلافا للمالكيّة الّذين اكتفوا باشتراط الرّفقة الآمنة، والصّواب هو قول الجمهور، بدليل ما رواه البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ )) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ ؟ فَقَالَ: (( اخْرُجْ مَعَهَا )).

ووجه الدّلالة من أوجه:

أوّلها: أنّ اللّفظ عام، لم يستثن حالة واحدة.

ثانيها: أنّه لا يُعقل أنّها تكون خرجت وحدها تريد الحجّ، فلا ريب أنّها خرجت في قافلة.

ثالثها: أنّها سافرت مع أكثر الرّفاق أمنا، وهم أصحاب رسول الله صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

رابعها: أنّ زوجها كان له أعظم عذر، وهو الجهاد في سبيل الله. ومع ذلك كلّه يقول له النبيّ صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( اخرج معها )).

خامسا: هل يجب الحجّ على الفور ؟

خلاف كبير بين العلماء، والصّحيح وجوبه على الفور متى استطاع إليه سبيلا، وذلك لما رواه أحمد والبيهقي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ يَعْنِي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ )). ["الإرواء" (4/168)].

فائدة: سؤال قد يُورِدُه الكثيرون، وهو حكم من استطاع الحجّ وفي الوقت نفسه يريد الزّواج، ولو حجّ فاتته القدرة على الزّواج، ولو تزوّج فاتته القدرة على الحجّ ؟

فالجواب: أنّ العلماء الّذين ذهبوا إلى أنّ الحجّ يجب على الفور قرّروا أنّ من خشِي على نفسه العنت والوقوع في المحرّم، وجب عليه الزّواج أوّلا، ثمّ إذا يسّر الله له الحجّ بعد ذلك حجّ. ومن لم يكن حاله كذلك فيحجّ ثمّ يتزوّج.

والله أعلم.

أخر تعديل في السبت 14 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2010 11:57
الذهاب للأعلي