الجميع يتساءل .. أين ذهب محمّد وأبو بكر ؟!
سؤال لن يجاب عنه إلاّ ببذل المال .. فأعلنوا في أرجاء مكّة وما حولها أنّ محمّدا مطلوب حيّا أو ميّتا !
لقد فتحت قريش صناديق الحلال والحرام، وعرضت الهدايا والهبات العِظام .. والمطلوب هو إحضار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حيّا أو ميّتا ..
وكانت الدّعوة عامّة .. فاستنفرت كلّ العرب: الإبل والفضة والذّهب، لمن عثر على محمّد حيث ذهب.
وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بتوفيق الله أذكى، وأصدق وأزكى، فلم يعزم على النّزول فورَ ذهابِ المشركين عن الغار، بل ظلّ به ثلاثة أيّام وليالِيَهنّ، حتّى تهدأ الأمور ..
ثمّ نزل صلّى الله عليه وسلّم هو وأبو بكر ليلا ..
ففي صحيح البخاري عن البرَاءِ رضي الله عنه قال: قَالَ عَازِبٌ لأبي بكر رضي الله عنهما:
حَدِّثْنَا كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ خَرَجْتُمَا مِنْ مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ يَطْلُبُونَكُمْ ؟
قَالَ: ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ، فَأَحْيَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا، وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ فَآوِيَ إِلَيْهِ، فَإِذَا صَخْرَةٌ أَتَيْتُهَا، فَنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ، ثُمَّ فَرَشْتُ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِيهِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! فَاضْطَجَعَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم.
ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي، هَلْ أَرَى مِنْ الطَّلَبِ أَحَدًا ؟ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا، فَسَأَلْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ:
لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ.
فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً (الكثبة: الشّيء القليل) مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَوَافَقْتُهُ قَدْ اسْتَيْقَظَ.
فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قُلْتُ: قَدْ آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: (( بَلَى )).
فَارْتَحَلْنَا، وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ !
فَقَالَ: (( لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )).
فهذا الرّجل استجاب لنداء ودعوة قريش، ففرك يديه طمعا في النّوال .. ولكنّه لا يعلم أنّه يسير حتّى يُذعن لدين الكبير المتعال .. ولندع سراقة بن مالك يحدّثنا عن ذلك اليوم ..
جاء في صحيح البخاري أنّ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ قَالَ:
جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ [والدّية مائة من الإبل].
فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ:
يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ !
قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا.
ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ، فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ[1] حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي.
فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي[2] حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ.
فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي ! فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا: أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا ؟
فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ ! فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ.
[في رواية عند الإسماعيليّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا عليه، فقال: (( اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ ))].
فَسَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ، حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ ! فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا، فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا !
فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً، إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ[3] سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ !
فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ ! فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ، فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ.
وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنْ الْحَبْسِ عَنْهُمْ: أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقُلْتُ لَهُ:
إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ.[في رواية قال: يا محمّد، قد علمت أنّ هذا عملُك، فادعُ الله أن ينجِيَنِي ممّا أنا فيه].
وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي[4]، وَلَمْ يَسْأَلَانِي، إِلَّا أَنْ قَالَ:
(( أَخْفِ عَنَّا )).
[في رواية قال: فوالله لأعمينّ على من ورائي من الطّلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما، فإنّك ستمرّ بإبلي وغنمي بمكان كذا وكذا، فخُذْ منها حاجتَك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ حَاجَةَ لَنَا فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ )) ودعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانطلق راجعا].
فجعل لا يلقَى أحدا إلاّ قال له: قد كُفِيتُم ما هاهنا. فلا يلقى أحدا إلاّ ردّه.
وفي رواية أنس رضي الله عنه:" فقال: يا نبي الله مُرْني بما شئت !
قال: (( فَقِفْ مَكَانَكَ، لاَ تَتْرُكَنَّ أَحَداً يَلْحَقُ بِنَا )).
فكان أوّل النّهار جاهدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان آخرَ النّهار مَسْلَحَةً له "، أي: حارسا له بسلاحه.
وكان يقول لقريش: قد عرفتم بصري بالطّريق وبالأثر، وقد استبرأْت لكم، فلم أر شيئا، فرجعوا ".
العبرة:
لا بدّ من التّذكير دائما بوجوب اتّخاذ الأسباب، والتوكّل على العزيز الوهّاب، ولست بمتكلِّفٍ هذا التنبيهَ، ولكن قد حداني إليه أمرٌ عظيم:
فإنّ سراقة بن مالك قد رأى بأمّ عينيه عنايةَ الله تعالى.. شاهَد آيةً من آياتِ الله، وعلم منها أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حصنٍ حصين، ولن تصل إليه أيدي المشركين، ومع ذلك يسمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول له: (( أَخْفِ عَنَّا )) !
لماذا يقولها له، وهو محاط في ذلكم الحشد العظيم من الخوارق، والجنود الّتي لا يعلمها إلاّ الله ؟!
درس عظيم لمن يريد انتشار هذا الدّين.. فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطّ لنا نهجا، ورسم لنا طريقا:
تكتّم .. وتلثّم .. وسار في اللّيل .. وأخفى الأثر .. ولم يخبِر أبا بكر رضي الله عنه قط أنّ هناك معجزاتٍ وآياتٍ ستستقبلهم بالطّريق ..
لكنّه صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ الأسباب، وفوّض أمره إلى الله تبارك وتعالى.
إنّ الهجرة تطبيقٌ عمليّ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَحَدَكُمْ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ))..
فإذا أتقنه فقد انتهى دوره، ولا يكلّف الله عبده بأكثر من ذلك.
بل إنّنا نراه صلّى الله عليه وسلّم قد استعان بمشرك.
وهذا ما سوف نراه لاحقا إن شاء الله تعالى.