1- أنّ ذلك يدخل ضمن قوله تعالى:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}، قال العلماء: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أسوته الرّسل قبله، أمّا من دونهم فأسوتهم الرّسل والصّالحون أيضا.
وهذا عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه - كما رواه أحمد في "الزّهد" (118) - تزوّج امرأة من نساء عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقال:" والله ما نكحتها رغبة في مال ولا ولد، ولكنّي أحببت أن تُخبِرني عن ليل عمر رضي الله عنه ".
وذكر الذّهبي رحمه الله في "السّير" (1/33)، وابن حجر رحمه الله في "الإصابة" (6/178) عن ابن أبي ليلى: تزوّج رجل امرأة ابن أبي رواحة، فقال: والله ما تزوّجتها إلاّ لتُخبِرني عن صنيع عبد الله في بيته.
فأخبار الصّالحين جند من جنود الله يُثبّت الله بها قلوب أوليائه.
2- لأنّه كما قال تعالى:{إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، والاستغناء في أهل الدّنيا يكون بالمال والجاه، والصّالحون يُدخل الشّيطان عليهم الغرور بصلاحهم، وطالب العلم بعلمه، فيطغى. فدراسة تراجم أهل العلم تعيد النّفس إلى مكانتها، إذ تدوس عليها بثقل هذه الجبال الشّمّاء.
3- تحقيق القدوة، لأنّ مشكلة المسلمين اليوم هو غياب القدوة، فإذا عُدم المسلم القدوة أمامه، فإنّه يحصّلها من دراسة هذه التّراجم. وقد قال أبو حنيفة: إنّ قراءة سير الصّالحين أحبّ إلينا من كثير من الفقه.
فتعالوا بنا أيّها الإخوة الكرام، نتصفّح شيئا من حياة هذين الإمامين، ولن نتحدّث إلاّ عن عشر معشار ما أُثِر عنهما:
هو البحر من أيّ النوّحي أتيته *** فذروته المعروف والجود ساحله
القبس الأوّل: نقطة البداية للإصلاح.
التقى الشّيخان رحمهما الله تعالى بالمدينة النّبويّة عام 1913 م، وكان يتسامران لمدّة ثلاثة أشهر، يقول عنها الشّيخ الإبراهيمي رحمه الله في ترجمته لنفسه:" كانت هذه الأسمار المتواصلة كلّها تدبيرا للوسائل الّتي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصّلة لتلك النّهضات الشّاملة ".
وكان واقع الجزائر وهي تحت وطأة الاستدمار الفرنسيّ مرّ المذاق، لا يتحمّل ولا يُطاق، فلم يكُن من السّهل أن يعود الشّيخان إلى الوطن.
ولكنّ الشّيخ ابن بَادِيس قرّر الرّجوع، وكان ذلك يومَ لقي شيخَه الّذي علّمه في صغره، التقاه بأرض الحجاز، فقال له:" ابْقَ هنا، واقطَع صلتَك بالوطن ". وقال له شيخ آخر هو حسين أحمد الهنديّ رحمه الله الّذي درس على يديه هناك:" ارجع إلى بلدك لخدمة الدّين والعربية بقدر الإمكان ".
قال الشّيخ ابن باديس رحمه الله:" فحقّق الله رأي الشّيخ الثّاني، فرجعنا إلى الوطن بقصد خدمته فنحن لا نهاجر، نحن حرّاس الإسلام والعربيّة والقوميّة بجميع مدعماتها في هذا الوطن " [" الشّهاب " (مجلد 13/ص 355)].
أدرك الشّيخان رحمهما الله أنّه لا بدّ من حيث بدأت رسالة الإسلام، وأنّ الله تعالى بدأ الوحيَ بقوله:{اِقْرَأْ}، وجعل آخرَ سور القرآن:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}، فدلّ ذلك على أنّ النّصرَ مع العلم.
خاصّة أنّ العدوّ المستدمِر كان قد أدرك ذلك، فكان أوّل ما بدأ به هو هدم المدارس والزّوايا، ومنع الجزائريّين من تحصيل العلم وطلبه.
وقد أحصيت المدارس في الجزائر سنة 1830 م فكانت أكثر من ألفي مدرسة ما بين ابتدائية وثانوية وعالية !
وكتب الرحالة الألماني فيلهلم شيمبرا حين زار الجزائر في ديسمبر 1831 م، يقول:" لقد بحثتُ قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أنّي لم أعثر عليه، في حين أنّي وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلّما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب".
فلمّا قضى الاستدمار على المدارس والمعاهد، وحوّل كثيرا من المساجد إلى كنائس، حمل الشّيخان راية العلم والتّعليم.
ويذكر الشّيخ الإبراهيميّ رحمه الله عن الشّيخ ابن باديس رحمه الله أنّه كان يقوم بنشاط دعويٍّ تعليميّ منقطع النّظير:
- فكان مشرفا على نحو من 400 تلميذ في معهده بالجامع الأخضر: تدريسا، وقياما على شؤون المبيت، والإطعام، ونحو ذلك. أمّا عدد التّلاميذ جميعهم فكانوا يناهزون الألف ! قال عنهم الإبراهيميّ رحمه الله:" هي الكتيبة الأولى من جند الجزائر".
- وكان ينظم دروسا خاصّة للشباب في " مدرسة التربية والتعليم " بقسنطينة صباح كل أحد ومساءَه.
- وكان يلقي دروسا يحضرها العامة والطلبة كدرسه في التفسير بعد صلاة العشاء، ودرسه في شرح " الموطّأ " بعد صلاة الظهر، وذلك كلّ يوم عدا يومي الخميس والجمعة، حيث خصصهما للرحلات التي يقيم إلى مختلف مناطق البلاد من شرقها إلى غيرها لإلقاء المحاضرات والدروس أو توجيه الدعاة وترشيد المدرسين.
فختم تفسير القرآن الكريم في ربع قرنٍ من الزمّان فأكمله عام 1938 م، وختم شرح الموطّأ عام 1939 م الّذي استغرق المدّة نفسَها.
- وكان يشرف على جريدة " الشّهاب "، ويُسهم في بعثِ جرائد جمعيّة العلماء:" السنّة "، و"الشّريعة" و"الصّراط" و"البصائر".
ثمّ لحِق به الإبراهيمي رحمه الله فرجع إلى الجزائر، فشرع من أوّل يوم في التّعليم والتّدريس وإقامة النّدوات في مختلف القرى، على الرّغم من التّهديدات الّتي كانت ترسلها إليه فرنسا.
وكان من 1920 إلى 1930 يلتقي والشّيخ ابن باديس كلّ أسبوعين أو كلّ شهر قال:" فنزن أعمالنا بالقسك، ونزن آثارها في الشّعب بالعدل ".
وكان من بركة هذه اللّقاءات أن ثبّت الله الإبراهيميّ رحمه الله يوم عزم على الخروج من الجزائر، فقال له ابن باديس رحمه الله:
" إنّ خروجك يا فلان أو خروجي يكتبه الله فرارا من الزّحف" ! قال الإبراهيمي:" فوالّذي وهب له العلم والبيان، لقد كانت كلمته تلك شؤبوبا من الماء صبّ على اللّهب " ["آثار الإبراهيميّ" (4/338)].
فلم يفتُر يوما عن التّعليم وإنشاء المدارس والمعاهد، حتّى وهو في منفاه بآفلو، تراه أقام 700 مدرسة بالأغواط.
فأين المعاهد الشّرعيّة والمدارس القرآنيّة الّتي يتخرّج فيها أئمّة للهدى، ومصابيح للدّجى ؟
ليسأل منّا كلّ من يريد الإصلاح: كم درساً أقوم عليه، وكم تلميذا أشرف عليه ؟
فمن ترك العلم لأجل مرارة الواقع، فواقع الشّيخين رحمهما الله يُغني عن الجواب !
ومن ترك العلم لأجل الجاه والمنصب، فيأخذ العبرة من موقف الشّيخ ابن باديس رحمه الله:
ففي سنة 1936 م قرّرت اللّجنة التنفيذيّة للمؤتمر الإسلامي الجزائري إسناد رئاسة المؤتمر إليه، فكان جوابه رحمه الله:
" أعلن لهؤلاء الإخوان: أنّهم غفلوا حين أسندوا الرئاسة إلَيّ عن أشغالي العلميّة الّتي تستغرق أوقاتي كلَّها، والّتي أُضَحِّي في سبيلها بكلّ عزيز، كما غفلوا عن ارتباطي بهيئات علميّة ... وأنّها هي المالكة لحياتي؛ لأنيّ جعلت حياتي وقفا عليها، وبناء على هذا فإنّي أعلن لهؤلاء الإخوة وللأمّة الجزائريّة كلّها أنّني لست لنفسي وإنّما أنا للأمّة أُعلِّم أبناءها وأجاهد في سبيل دينها ولغتها، وأنّ كلّ ما يقطع عليّ الطريق أو يعوقني عن أداء واجبي في السبيل فإنّي لا أرضى به ولو كان ذلك مصلحة الأمّة " ["الآثار" (6/181)].
القبس الثّاني: لا بدّ من التّخطيط والصّبر.
فقد ذكرنا أنّ الشّيخين كانا قد عزما على إنشاء " جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين " منذ 1913 م، فشرعا في التّخطيط لها بإنشاء جيل يحمل الرّسالة الخالدة لتخلُد هذه الأمّة، وبقِيا على ذلك إلى غاية 1931 م، قال الشّيخ البشير رحمه الله:
" فكانت هذه السّنوات كلّها إرهاصات لتأسيس جمعيّة العلماء ... كانت كلّها إعدادا وتهيئةً للحدث الأعظم، وهو إخراج الجمعيّة من حيّز القول إلى حيّز الفعل، وأصبح لنا جيش من التّلامذة يحمل فكرتنا وعقيدتنا مسلّح بالخطباء والكُتّاب والشّعراء يلتفّ به مئات الآلاف ...".
فلا ندري من أيّهما نعجب: من حسن تخطيطهما، أم من سعة صبرهما ؟!
القبس الثّالث: الدعوة إلى الله مقدَّمة على الأهل والمال.
بعد محاولات فاشلة من الولاية العامّة في حمل الشّيخ ابن باديس على حلّ " جمعيّة العلماء " أو التخلّي عن رئاستها، حيث قدّمت له العروض المغرية بواسطة أبيه – مصطفى -، وكان منها تعيينه في أعلى منصب دينيّ، فما نجحوا.
وكانت المحاولة الأخيرة لهم لمّا وقع والده في ديون كبيرة فبعث إليه "ميرانت" (مدير الشّؤون الأهلية) في الولاية العامّة بالعاصمة دعوة بالحضور إلى مكتبه - وكان والد ابن باديس حاضرا -، فلمّا دخل عليه قال له:
" إنّ أسرة ابن باديس في ضائقة مالية حادّة، وهي مقبلة على الإفلاس منذ اليوم، وإنّ الحكومة الفرنسية تعلن استعدادها لإنقاذ الأسرة، وهي هذه المرّة لا تطلب منك حلَّ "الجمعيّةِ"، وإنّما تكتفي منك بالاستقالة منها فقط، تكتب الاستقالة وتوقّعها لتبقى محفوظة عندنا من غير إعلان عنها أو إشهار، ونحن نسلّم لأبيك الآن صكّا مصرفيّا يقضي كلّ ديون الأسرة " !
لم يُجِب ابنُ باديس في حضرة والده، وطلب مهلة للتّفكير إلى صباح اليوم الموالي، وفي الغد كتب جوابه إلى ميرانت:
" اقتُل أَسِيرَك يا ميرانت، أمّا أنا فمانع جاري " الجمعيّة "! اقتل مصطفى بن باديس واقتل معه ابنَه عبد الحميد، واقضِ على أسرة ابن باديس إنْ مَنَحَك الله هذه القدرة، ولكنّك لن تصل أبدا إلى قتل " جمعيّة العلماء " بيدي، لأنّ " جمعيّة العلماء " ليست جمعيّة عبد الحميد بن باديس، وإنمّا هي جمعيّة الأمّة الجزائريّة المسلمة، وما أنا إلاّ واحد فيها أتصرّف باسمها واسم الأمّة كلّها، ومُحَالٌ أن أتصرّف تصرّفا أو أن أقف موقفا يكون فيه قتل " الجمعيّة " على يدي، أقول هذا وحسبي الله ونعم الوكيل ".
[" إمام الجزائر عبد الحميد بن باديس " لعبد القادر فضيل، ومحمد الصّالح رمضان (127 – 128)].
والّذي يطالع حياة الإبراهيميّ رحمه الله يجده كذلك بعد أن تولّى رئاسة الجمعيّة، اعتُقل عشرات المرّات، وعانى من التّعذيب الويلات، وتعرّض للنّفي، وما ثنى ذلك عزمه.
القبس الرّابع: التّصفية والتّربية والتّضحية ؟
إذا تحدّثنا عن وفاة الشّيخ ابن باديس رحمه الله دبّت الحياة.
فقد توفيّ رحمه الله تعالى في العطلة الربيعيّة فجأةً، فكثُرت الأقوال في سبب موته، والرّاجح ما ذكره الشّيخ البشير الإبراهيمي صديق عمره وأمين سرّه، قال رحمه الله:
" بعد استقراري في المنفى بأسبوع تلقّيت الخبرَ بموت الشّيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء، كان يحسّ به من سنوات ويمنعه انهماكُه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وفي علاجه " [" آثار الإبراهيمي " (5/284)].
لقد ترك العلاج ليس لأنّه لا مال له ولا معين له، بل تركه لأنّه لا وقت له ! لأنّ وقته كان قد أوقفه لله تعالى، ولأنّ أمر الدّعوة وإصلاح الأمّة قد سكن قلبَه، وملك عليه كيانه، فأصبح لا شعور له إلاّ بآلام الأمّة، ولا هَمَّ له إلاّ خدمة مصالح الأمّة.
وممّا يزيدنا عجبا كتمانُه لهذا المرض، حيث لم يكن يعلم به أحد فيما يظهر سوى الإبراهيمي، فقد سأل بعضهم عبد الحقّ بن باديس شقيق الشّيخ رحمه الله عن سبب الوفاة فقال ما معناه:
" إنّ الشيخ لم يكن يعطي نفسه حقّها الكامل من الرّاحة، وقد كان يومه يبدأ مع صلاة الصّبح ولا ينتهي إلاّ في ساعة متأخّرة من اللّيل، وهذا لمدة خمس وعشرين سنة قضاها بأيّامها ولياليها في التدريس والوعظ وإلقاء المحاضرات والكتابة في الصحافة، والقيام على إدارة الجمعيّة وشؤونها، والسفر، والتنقّل الدائمين عبر القطر .. فالإرهاق والتعب والزهد في الحياة وثقل المسؤوليّة الّتي كان يشعر بها هي السبب المباشر لوفاته ".
[" الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة العلميّة والفكريّة " للزّبير بن رحال (121)].
فرحم الله ابن باديس والإبراهيميّ رحمة واسعة.
والحمد لله ربّ العالمين.