الجمعة 17 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 21 جانفي 2011 07:49

- تعظيم قدر الصّلاة (2) الصّلاة مظهر للعبوديّة، وسيبل للتّزكية

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الخطبة الأولى: [بعد الحمد والثّناء].

فلقد تحدّثنا في الخطبة الأخيرة عن عِظَم قدر الصّلاة في الإسلام، وذكرنا الأدلّة الكثيرة على أنّ تركها من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله ربّ الأنام، وأوضحنا معنى ترك الصّلاة، وأنّ تركها إنّما هو إخراج صلاة واحدة عن وقتها، وأسأل الله تعالى أن يثبّت المؤمنين على قرّة عيونهم، وشفاء صدورهم، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.

أمّا اليوم - معاشر المؤمنين - فإنّنا نودّ أن نُلقِيَ عليكم سؤالا، من العيب ألاّ يجد أحدنا له جوابا، ألا وهو: لماذا فرض الله تعالى على عباده الصّلاة ؟ ولماذا جعلها عمود الدّين ؟ ولماذا جعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الصّلاة هي العهدَ بين المؤمنين والكافرين ؟ ولماذا كان حدّ تارك الصّلاة هو القتل كما هو قول جمهور علماء المسلمين ؟..

هل يحتاج ربّنا تبارك وتعالى إلى ركوعنا وسجودنا ؟!..

هل يضُرّ اللهَ شيئا أن يترك أهل الأرض جميعهم هذه العبادة ؟!..

ما يضرّ الله أن يؤخّر العبد صلاته ؟!..

والجواب كما لا يخفى على مسلم هو قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُم الفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} ..

الجواب كما قال تعالى: {إِن تَكفُرُوا أَنتُم وَمَن فِي الأَرضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}..

الجواب كما قال تعالى في الحديث القدسيّ الّذي رواه مسلم في " صحيحه ":

( يا عبادي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ..

يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.

يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.

يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.

يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ )).

لذلك فسيكون موضوعنا معكم اليوم، هو بيان ثمرات الصّلاة، والحكمة من كونها عمود الدّين، فما شرع الله الصّلاة، إلاّ ليتمتّع العبد بنفحاتها، ويجني ثمراتها.

وأعظم ثمرات الصّلاة:

1- تحقيق العبوديّة لله تعالى:

فالعبوديّة لله هي الغاية من خلق الإنسان، قال عزّ وجلّ:{وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُون}.

العبوديّة لله هي أشرف المقامات، وأرفع الدّرجات .. ويدلّ على ذلك أنّ الله تعالى وصف نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بالعبوديّة في أرقى المقامات، وأعظم المنازل، ولو كان هناك وصف أعظم من العبوديّة لوصفه به:

فوصفه بالعبوديّة في مقام إنزال الكتاب، فقال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: من الآية23]، وقال تبارك وتعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: الآية1]، وقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: من الآية1] .

ووصفه بالعبوديّة في مقام الدّعوة إليه، فقال:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجـن:19].

ووصفه بالعبوديّة في مقام الإسراء، فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: من الآية1].

لذلك كان كثير من السّلف لا يرضى أن يجرّد من التّعبيد لله إذا ناداه أحد، وما أحسن قول من قال:

ومـمّا زادنـي شـرفا وتيـها *** وكـدت بأخمُصـيّ أطـأ الثّـريّا

دخولي تحت قولك: {يَا عِبَادِي} *** وأن صيّرت أحـمـد لـي نبـيّا

فالمسلم الّذي يستجيب لنداء الله تعالى خمس مرّات كلّ يوم وليلة، يسجد لله، ويركع لله، ويتضرّع إلى الله، هذا المسلم هو الجدير والحريّ بأن يكون عبداً لله تبارك وتعالى؛ لأنّ العبادة معناها التّذلّل، وليس هناك موضع يدلّ على ذلك مثل الرّكوع والسّجود.

والدّليل على أنّ الصّلاة هي محور العبادة كلّها، أنّ الله عزّ وجلّ قد فرض الصّلاة أوّل ما فرضها خمسين صلاة في اليوم واللّيلة، ففي الصّحيحين عن أَنَسٍٍ بنِ مالكٍ قال النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث الإسراء والمعراج الطّويل:

(( فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ.

فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا. فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ.

فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ.

فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَقَالَ لِي:" هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّفَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ )).

وكأنّ العبد لم يُخلق إلاّ لأَجل هذه العبادة العظيمة !

أفرأيتم بعد ذلك إلى من جاء ففرّط في هذه الخمس ؟!..أيّ عذر لديه بعد ذلك ؟!..

ولئن سألتهم عن تأخير الصّلوات عن أوقاتها لقالوا:{شَغَلَتنَا أَموَالُنا وَأَهلُونَا} .. مع أنّ المال والأهل والبنين، إنّما جعلهم الله لهذه العبادة خاضعينَ مسخّرينَ.

أمّا المال، فاستمعوا إلى هذا الحديث العظيم، الّذي رواه الإمام أحمد عن أَبي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قال: كُنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَيُحَدِّثُنَا فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ:

(( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ })).

هذا هو حال المال ..

أمّا الأهل، فقد قال الله تعالى محذّرا عباده من فتنتهم:{يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلاَ أَولاَدُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ}.

أتدرون - عباد الله - أتدري يا من شغلك أهلك ومالُك، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شبّه عذاب من غفل عن هذه العبادة العظيمة بمن فقد أهله وماله، فقد روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال:

(( الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ )).. أي كما أنّك لا ترضى بهلاك أهلك ومالك، ينبغي لك ألاّ ترضى بفوات رأس مالك، وسيّدة أعمالك.

أرأيت إلى الحسرة التي يُصاب بها العبد عند فقد المال والأهل وهو في أمسّ الحاجة إليهما ؟..كذلك يحبط الله عمله يوم يكون في أمسّ الحاجة إليه.

فهذه أعظم الثّمرات الزّكية، والدّرر البهيّة، التي من أجلها شرع الله الصّلاة، وهي تحقيق عبوديّة الله تعالى، وهذا الشّرف لا يناله إلاّ المصلّون المتذلّلون، فيعزّهم الله بعد ذلّهم، ويرفعهم بعد سجودهم.

2-ومن ثمرات الصّلاة الطّيّبة: أنّها منهاة عن الإثم.

فإنّ الصّلاة من أعظم أسباب التّزكية، قال الله تعالى:{قَد أَفلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسمَ رَبِّهِ فَصلّى}، وقال:{اُتلُ مَا أُوحِيَ إِلَيكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكرُ اللهِ أَكبَرُ وَاللهُ يَعلَمُ مَا تَصنَعُونَ}..

يبيّن الله تعالى أنّ الصّلاة الصّحيحة لا بدّ أن تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر والعصيان، وتقوده إلى الخير والمعروف والإحسان، لذلك نرى أنّ أهل المساجد هم أفاضل النّاس وأحاسنهم - على عُجرهم وبـُجرهم - وما كان فيهم من عيب أو ذنب أو مخالفة، فهو في غيرهم أضعاف مضاعفة.

والعجيب أنّ الشّيطان الرّجيم ألقى على ألسنة المسلمين قولا من الإفك المبين، ينسبونه إلى المصطفى الأمين، فترى أكثر النّاس يردّدونه ألا وهو قولهم:" من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، أو:لم يزدد من الله إلاّ بعدا "..! مع أنّ لديهم قرآنا يتلى عليهم يصرّح بأنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فاعلموا أنّ هذا ليس بحديث.

ويأتي عليه من القواعد فيهدمه، ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ ! قَالَ: (( إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا تقُولُ )).

فالمحافظة على الصّلوات هي الطّريق الأمثل إلى الاستقامة على الدّين، والفوز برضا ربّ العالمين، والواقع يشهد بذلك؛ فإنّك لا ترى الرّجل والمرأة يلتزمان بالصّلاة على وقتها، والاعتناء بأركانها وواجباتها، إلاّ وانتقل من عالم الرّذيلة إلى عالم الفضيلة، وارتفع من حضيض الخلاعة إلى قمّة التّقوى والطّاعة؛ لأنّ هناك نورا يلقيه الله تعالى في قلب عبده المصلّي لا يناله إلاّ هو.

ولا يزال العبد على صلاته لا يرضى بها بدلا، ولا يبغي عنها حِوَلا، حتّى يستضيء قلبه بذلك النّور، فيرى من خلاله الحقّ حقّا والباطل باطلا، فالمصلّون ليسوا أمثال أكثر النّاس اختلط عليهم الحابل بالنّابل، والحقّ بالباطل، فأصبح المعروف لديهم منكرا، والمنكر معروفا.

الخطبة الثّانية:

فإنّه قد تبيّن لكم - إخوتي الكرام - أنّ المحافظة على الصّلاة مع الأيّام، مطهرة ومنهاة عن المعاصي والآثام، وأنّها نور يُنير للعبد طريق الحق.

وممّا يدلّ على أنّ الصّلاة نور، وتجارة لن تبور، ما رواه مسلم عن أبي مالكٍ الأَشعريِّ قال:

قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُهَا )).

الصّلاة نور، وكأنّه لا سبيل إلى تحصيل هذا النّور إلاّ بالصّلاة.

وأكّد الله تعالى هذا فقال:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}.

أين يحصّل العبد هذا النّور ؟

الجواب بعد هذه الآية مباشرةً، حيث قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)}.

فتأمّلوا - عباد الله - هذا الرّبط العجيب بين الصّلاة والنّور، وكأنّ الّذي لا يحافظ على صلواته يعيش في ظلمات المعاصي والشّهوات والفجور والشّبهات، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، لذلك تجد الآية بعد آية النّور هذه تصدع بذلك، في بيان لا يزيغ عنه إلاّ هالك:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}.

فاستيقظ يا عبد الله من غفلاتك، واعرف القدر العظيم لصلواتك، فإنّها قرّة عيون الموحّدين، وأعظم قربة لربّ العالمين.

كما أنّك إذا تأمّلت أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجدت ربطا عجيبا بين صلاح الصّلاة وصلاح القلوب، وأُذكّركم بحديث مضى معنا، وهو قول نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: (( أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ الصَّلاَةُ، فَإِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ ))، وكأنّ الصّلاة هي القلب الّذي ذكره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الّذي رواه الشّيخان عن النّعمان بن بشير رضي الله عنه: (( أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ الجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ الجَسَدِ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ )).

فمنزلة الصّلاة من الأعمال بمنزلة القلب من الجسد. فبصلاح الصّلاة يصلح القلب، وبصلاح القلب تصلح الجوارح والأعمال كلّها، فتصلح اليد فلا تبطش ولا تسرق، وتصلح الرّجل فلا تسعى إلى محرّم، وتصلح الأذن فلا تستمع إلى لهو أو باطل، وتصلح العين فلا تزني بالنّظر القاتل، ويصلح اللّسان فلا يقول إلاّ خيرا، ولا يجني إلاّ برّا ..

فهو على نور في جميع أقواله وأفعاله، يسعد في حاله ومآله.

فقد يقول قائل بعد الّذي سمعتموه: إنّ كلامكم هذا في واد، وحالي في واد آخر، فإنّي لا أشعر بهذا النّور الذي تحدّثت عنه طويلا، وصلاتي لم تنهني المنكر حتّى أضحيت له قتيلا ؟!..

فنقول له: ليس كلّ ما تراه يلمع ذهبا، ولا تجعل حديثنا هذا عجبا، ألم تسمع إلى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لذلك الرّجل المسيء لصلاته: (( اِرْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ )) ؟..

إنّ هناك فرقا شاسعا، وبونا قاطعا، بين الصّلاة التي شرعها الله تعالى في هذا الدّين، وبين الصّلاة التي يصلّيها بعض المسلمين..

والله لو أتقن النّاس صلاتهم، وأدّوها على وجهها، وفي أوقاتها، لشعروا بحلاوة الإيمان، ولتمتّعوا بالقرب من الواحد الدّيّان.

ولكن، كيف يقطف الثّمر، من زرع البذر في الحجر ..؟!

كيف يستقيم من يصلّي الصّلاة خارج وقتها .. وإن صلاّها في وقتها اشتكت من نقرها ..؟!

تأتي إلى صلاتك فـي فتـور *** كأنّك قد دُعِيتَ إلى البلاء

وإن أدّيتها جـاءت بنقـص *** لما قد كان منك من الرِّياء

وإن تخل من الشّـرك فيهـا *** تُدبّر للأمور في الارتقـاء

ويا ليت التّدبّر فـي مبـاح *** ولكن في المشقّة والشّقاء

وإن صلّيتها مـن بين خلـق *** أطـلت ركوعها بالانحناء

يا عبـدُ ألا يستحقّ الله منك *** سـاعة تناجيه في صفـاء

إنّ مثل من هذا حالُه كمثل فأرٍ أراد أن يتّخذ صديقا، يزيل عنه وحشته، ويحسن صحبته، فاختار بعيرا، فأخذه إلى داره، فلمّا رأى البعير جحر الفأر، قال: يا هذا ! .. إمّا أن تتّخذ دارا تليق بصاحبك، أو تتّخذ صاحبا يليق بدارك.

فكذلك العبد .. عليه أن يؤدّي صلاة تليق بربّه، أو يتّخذ ربّا يليق بصلاته.

فالصّلاة التي تجني ثمارها الجنيّة هي: الصّلاة لوقتها: فهي أعظم الأعمال، حتّى إنّ الله تعالى قد أوجب الصّلاة على المريض والصّحيح، وعلى المسافر والمقيم.

بل أوجبها في أصعب الأوقات، وأحلك اللّحظات، وذلك عند ملاقاة العدوّ .. فقال الله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ} أي: إن لقيتم العدوّ:{فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} أي: إن اشتدّ خوفكم من العدوّ بأن كانوا يستعدّون لقتالكم وخشيتم خروج وقت الصّلاة، فصلّوا وأنتم تمشون، أو راكبون ..

في هذه الحال سقط كلّ شيء، سقط استقبال القبلة .. سقط القيام .. سقط الخشوع .. سقط الرّكوع .. سقط السّجود .. سقط كلّ شيء إلاّ الصّلاة كيفما استطاع العبد، يومئ ويشير برأسه للسّجود، وللرّكوع، ويذكر الله تعالى كيفما استطاع .. المهمّ هو الصّلاة لوقتها ..

فما قولك أيّها الجالس في مكتبه، ويقول: الله غالب العمل ..!؟

وما قولك أيّها التّاجر في محلّه، ويقول: الله غالب .. إنّها الخبزة ..!

وما قولكِ أنت أيّتها المرأة في بيتها، وتقول: الله غالب .. إنّها شؤون البيت ..!

فوالله ما بقي لأحد عذر بعدما سمعتموه، وللحديث بقيّة، وإن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت، والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل.

أخر تعديل في الجمعة 03 رجب 1443 هـ الموافق لـ: 04 فيفري 2022 15:30
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي