الاثنين 04 رجب 1432 هـ الموافق لـ: 06 جوان 2011 11:21

- البيان والتّوضيح لما في العامّية من الفصيح (5)

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

( حرف الجيم )

جـاح

إنّها كلمة كثيرا ما نسمعها حال المنافسة والمسابقة، وتعني الخروج عن الحقّ لعدم الرّضا بالنّتيجة، فيقولون ( جاح )، و( يجوح )، وهو: (جوّاح )، وهي كلمة فصيحة، سالمة صحيحة؛ فقد قال ابن منظور رحمه الله في " اللّسان ":

" وجاحَ يَجُوح: إِذا عَدَل عن المَحَجَّة إِلى غيرها ".

وربّما كان أصلها من الجَوح والاجْتِياح، وهو: الاستئصال، تقول: جاحَتهم السَّنة واجتاحَتْهم، أي: استأْصلت أَموالهم، وسَنَة جائحة، أي: جَدْبة، فكأنّ الّذي يحيد عن المحجّة يريد أن يستأصل حقّ غيره.

ولنا مع هذه الكلمة فوائد:

الأولى: من مباحث الفقه وأبوابه ( وضعُ الجوائح ) والجوائح جمعٌ مفرده ( الجائحة ) وهي: ما يُصيب الزّرع والثّمار من آفات لا صنيع للآدميّ فيها، كالرّيح والجراد والسّيل ونحوها.

روى مسلم عن جابرٍ رضي الله عنه (( أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ )).

وروى أيضا عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الْجَوَائِحُ: كُلُّ ظَاهِرٍ مُفْسِدٍ مِنْ مَطَرٍ، أَوْ بَرَدٍ، أَوْ جَرَادٍ، أَوْ رِيحٍ، أَوْ حَرِيقٍ.

ومعنى ذلك: أنّ الثّمرة إذا بيعت بعد بدوّ الصّلاح، وسلّمها البائع إلى المشتري بالتّخلية بينه وبينها، ثمّ تلِفت قبل أوان الجذاذ، فإنّها من ضمان البائع، وهو مذهب مالك وأحمد رحمهما الله، وذهب الجمهور إلى أنّه بمجرّد التّخلية فإنّها من ضمان المشتري.

والصّواب -والله أعلم- قول الإمامين مالك وأحمد، لما رواه مسلم أيضا عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟!)).

ومفهوم ذلك أنّه لو تلِفت قبل التّسليم فلا خلاف في أنّها من ضمان البائع.

الثّانية: من مصادر الفعل ( جاح ) الجَوْح والجِيَاحَة !..

و( الجياحة ) لفظة يُطلقها العامّة على كلّ تصرّف غبيّ سفيه؛ والوصف منه ( جايح )؛ لأنّه اُجتِيحَ عقله واستُؤْصِل.

ولقائلٍ أن يقول: كان القياس أن يقولوا: (مجوح)، لأنّه ليس هو من اجتاح عقلَه، وليس فاعلا وإنّما مفعول به، فلماذا قالوا: (جايح

فنقول بيانا لعُلقَة العامّية بالفصاحة، راجين أن نكون قد جانبنا الجِياحة: الجواب من وجهين:

أوّلا: أنّ اسم الفاعل والصّفة المشبّهة تعني قيام الصّفة بالاسم، وليس بالضّرورة أن يكون فاعلا لها، ألا ترى أنّ ( ميّت، ومريض) من أسماء الفاعلين ؟

ثانيا: من بلاغة العرب أنّهم يطلقون اسم الفاعل ويريدون اسم المفعول أحيانا، كما أنّهم يطلقون اسم المفعول ويريدون اسم الفاعل، وهو ما يعرف بالمجاز العقليّ، قال الخطيب القزويني رحمه الله:" هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل ".

فانظر مثلا إلى قوله تعالى:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} [الإسراء]، والحجاب يكون ساترا لا مستورا، ولكن، لو قال ( ساترا ) لاحتمل أن يكون السّتر خفيفا، فلمّا قال ( مستورا ) فهمنا أنّه شديد قويّ منيع، فكأنّه لكثافته مستور بستر آخر، ونظيره قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [من الأنعام: 25]، أي: غطاء فوق غطاء.

ثمّ انظر إلى قوله تعالى:{ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)} [الطّارق]، أي: مدفوق، فهو أطلق اسم الفاعل وأراد اسم المفعول، لأنّ ماء الرّجل يُدفَق ولا يدفِق نفسه، ولكنّه لمّا كان يُدفق على دفعات وكانت الدّفقة الواحدة تدفع الأخرى سمّاه ( دافقا )، والله أعلم.

فكذلك الحال مع كلمة ( جايح )، فهو مستأصَل الرّشد لا مستأصِل، ولكنّه لمّا خرج عن الجادّة بالتّقصير، وسوء التّدبير، وضعف في التّفكير، اعتُبِر هو من استأصل نفسه بنفسه.

الثّالثة: ما علاقة ( جُحَا ) بهذه الكلمة ؟ فأقول:

أوّلا: اعلم أنّه ليس بالضّرورة أن تكون ثمّة علاقة، ووجود الجيم والحاء لا يفرِض الخلّة والصّداقة، وإلاّ لركِبنا الهوس والجنون، وفرضنا علاقة بين ذلك ونهر ( جيحون ) !!..

ثانيا: ( جحا ) من الرّجال الّذين قيل عنهم الكثير والكثير، حتّى صار على لسان كلّ صغير وكبير، ويُحكى عنه ما هو أشبه بالأساطير .. فمنهم من جعله مثلا للحمق كما في كتب الأمثال، ومنهم من جعله في غاية العقل والفطنة والكمال، ومنهم من نفاه وجعله من نسج الخيال.

وقد ذكروا أنّه ( دُجَيْن بن ثابت أبو الغصن الكوفيّ الفزاريّ )، الّذي توفّي نحو 130 هـ/ 747 م)، ولكنّ الحافظ الذّهبي في " سير أعلام النّبلاء" والحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " نفيَا ذلك، قال الذّهبي: " وأخطأ من زعم أنه جحا صاحب تيك النّوادر ".

والّذي يبدو أنّه أسطورة أو أنّه اسمٌ أطلِق على عدد من الرّجال، ذلك لأنّه - حَسَب ما ذكره بعض الباحثين - أنّ الجاحظ كان أوّل مؤلِّف عربيّ ذكر جحا في مؤلّفاته، ذكره في رسالة عن عليّ رضي الله عنه والحكمين، وذكره في " كتاب البغال ".

[اتظر محاضرة شارل بلا في  جريدة " الحياة البيروتيّة "].

ويؤيّد ذلك: أنّ جحا عرفته الشّعوب الأخرى بأسماء متشابهة، فجحا الرّومي اسمه ( خجا )، وفي آسيا الوسطى ( دجا)، وفي مالطة (جيهان) وفي بلاد السّكسون (جوكا).

واعلم أنّ كتاب " نوادر جحا " المطبوع بمصر وبيروت، والمترجم عن التّركية، إنّما هي في أخبار جحا الرّومي، لا العربيّ، وفي مقابله ألّف بعض العرب كتابا آخر سمّاه " نوادر جحا " أيضا ذكره ابن النّديم في " الفهرست " وبوّب قائلا: "أسماء قوم من المغفّلين ألِّف في نوادرهم الكتب لا يعلم من ألّفها ".

ولذلك نفى وجودَه أحد الكتّاب وهو محمد فريد أبو حديد في مجلّة " العربي " العدد 41 ص 66.

ومع كلّ ذلك، وبالنّظر إلى أنّ أكثرهم يجعله مثلا للغباء، فإنّه يمكن أن يكون لاسمه عُلْقَةٌ بكلمتنا؛ فقد قال الزّمخشريّ في " المستقصى في أمثال العرب " عن ( جحا ):

" عَلَمٌ معدول عن جَاحٍ، وهو في الأصل اسم فاعل من جحي إذا مال في أحد شقّيه معتمداً على القوس في الرّمي ".

فانظر إلى قوله: " إذا مال "، تذكّرك بأصل ( جاح ) أنّها مجانبة الصّواب.

والله أعلم وأعزّ وأكرم.

أخر تعديل في الاثنين 04 رجب 1432 هـ الموافق لـ: 06 جوان 2011 11:26
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي