الجمعة 04 ربيع الأول 1436 هـ الموافق لـ: 26 ديسمبر 2014 20:55

- البيان والتّوضيح لما في العامّية من الفصيح (13) شَنِف. موضوع مميز

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

 حرف الشّين

( شَنِفَ )

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فمن أشهر الكلمات الّتي أضحت تقرع الآذان، وأكثرِ الألفاظ الّتي تدرج على اللّسان، كلمة ( شنَّفَ ) ! وهي بمعنى: إظهار الغضب، والاشمئزاز، وشدّة الإنكار.

ولِمَ لا تدرج في الخِطاب، ولها آلاف العُشّاق والخُطّاب، وسَمَّوا عصرَنا: عصرَ الاكتئاب ؟!

كيف لا تُرفعُ رايتُها، وترفرف ألويتُها، ووجوه أكثرنا عَبُوسة، حتّى أُصيبت الابتسامة بالعنوسة ؟!

فما موقع هذه الكلمة من واحة الكلام الفصيح ؟ وهل استعمال قومي لها استعمال صحيح ؟

فاعلم - أخي القارئ - أنّ مادةّ ( ش ن ف ) لها ثلاثة معانٍ في كلام العرب، وربّما آلَ الثّالثُ إلى ما قبله:

الأوّل: الشّنْفُ - بفتح الشّين وتسكين النّون - وهو: من حُلِيّ الأُذن، يُوضع في أعلاها، والّذي في أسفلها القرط، وقيل الشَّنْفُ والقرط سواء.

وشَنَّفْتُ المرأة تَشْنِيفاً فَتَشَنَّفَتْ: مثل قَرَّطْتُها فَتقَرَّطَتْ.

من أجل ذلك يقال: شنَّف الآذان بكلامه، أي: أمتعها به، وشَنَّف كلامه وقرّطه: زيَّنه وحلاّه. [انظر "أساس البلاغة" (1/524)].

الثّاني: الشَّنَفُ- بفتح الشّين والنّون - وهو: البُغض والتنكّر.

والفعل: شَنِفَ له، يشنَفُ: إذا أبغضَه، ورفع طرْفه ناظرا إليه كالكاره له والمعترض عليه.

وفي " القاموس المحيط ":" الشّانِف: المعرض، وإنّه لمُشانف عنّا بأنفه، أي: رافع.

ومنه قول أُنَيس لأخيه أبي ذرّ رضي الله عنهما حين عزم على دخول مكّة لملاقاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:" كُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ شَنِفُوا لَهُ وَتَجَهَّمُوا " [رواه مسلم].

ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لزيد بن عمرو بن نفيل يوم لقِيَه: (( مَا لِي أَرَى قَوْمَكَ قَدْ شَنِفُوا لَكَ ؟)) ["دلائل النبوّة" للبيهقيّ (2/126)].

وقال الشّاعر:

( ولَنْ أَزالَ - وَإِنْ جامَلْتُ مُحْتَسِباً *** فِي غَيْرِ نائرةٍ - صَبّاً لَهَا شَنِفا )[1]

وقالوا: ما لي أراك شانِفاً عنِّي وخانفا ؟ و( خنف ) بمعنى ( شنف )، يقال: خنف عنّي وجهه، أي: صرفه.

وهذا المعنى مطابقٌ لما درج عليه لساننا.

الثّالث: شَنَفَ إليه - بفتح النّون - يَشْنِفُ شَنْفاً وشُنُوفاً، أي: نظر إليه بمؤخَّر العين؛ أو هو: نظرٌ فيه اعتراض ["لسان العرب"].

والظّاهر أنّ هذا المعنى راجع إلى الثّاني؛ لأنّ ( النّظر بمؤخّرة العين وباعتراض ) هو من علامات التنكّر والبغض كما لا يخفى، وإنّما آثرت ذكر هذا اللّفظ؛ لفتح عينه، فافتح عينك لما سنقرّره بعد إن شاء الله.

ولمّا كان الحذِر الفطِنُ لِمَا يُكادُ له ينظرُ غالبا بمؤخَّر العين، قالوا: شنِف للشّيء، أي: فطِن، فلا داعي لذكر معنى رابع للكلمة.

الفوائد:

الفائدة الأولى:

أصاب قومي حين أطلقوا ( شنّف ) على من غضب وأنكر الشّيء واشمأزّ منه، إلاّ أنّهم أخطئوا حين ضعّفوا الفعل وفتحوا عينه، فقالوا: شَنَّفَ، وكان الأولى أن يقولوا: شنِف.

ولكن، لفتح العين وجهٌ، كما رأيناه في المعنى الثّالث.

أمّا التّضعيف، فلا وجه له، وعذرهم تداخل الألفاظ، حيث استعملوا التّضعيف الثّابت للمعنى الأوّل:" شنّفت المرأةَ " للمعنى الثّاني.

الفائدة الثّانية:

من تقليبات ( شنف ): شفَن، فيقال:" شفَنه، يشفِنه، شفْناً وشُفُونا "، إذا نظر إليه بمؤخّر عينِه بغضة أو تعجّبا. [انظر:"لسان العرب"].

وأرى قومي أصابوا حين استعملوا لفظا آخر من تقليبات الكلمة، وهو ( نشف )، بمعنى " يبس "، فأطلقوه على العابس الوجه، فكثيرا ما نسمعهم يصفون العبوس المكفهرّ الوجه بأنّه: ناشف !

الفائدة الثّالثة: احذر الشنَّف، وأقبِل على الابتسامة بشغف.

هناك مثلٌ صينيّ يقول:" إنّ الّذي لا يُحسِن الابتسامةَ لا ينبغي له أن يفتح متجراً ". أي: إنّه لا يفلح في الوصول إلى القلب.

وهذا واضح جليّ، لكلّ نبيه ذكيّ، ويغني عنه:

- ما رواه أبو يعلى والبزّار عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم:

(( إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ )) ["صحيح التّرغيب والتّرهيب" (2661)].

- وفي صحيح مسلم عن أبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قالَ: قالَ لِيَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ )).

- وروى التّرمذي عنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ )).

- وروى أيضا عنْ عبدِ اللهِ بنِ الحارِثِ بنِ جَزْءٍ رضي الله عنه قالَ:" مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ".

- وفي الصّحيحين عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال:" مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي ".

- وتذكّر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان آخر عهده بأصحابه الكرام ابتسامةٌ حانية مُطَمْئِنة، يقول أنسٌ رضي الله عنه:

" بَيْنَمَا المُسْلِمُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ، لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلاَّ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ ... فَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ اليَوْمِ ".

- ثمّ اعلم أنّ الإنسان إذا تبسّم تحرّك من 5 إلى 13 عضلة في وجهه، في حين أنّه إذا شَنِفَ لشخصٍ أو شيءٍ ما، تحرّك منه 47 عضلةً !

فما أيسر الابتسامة ! وما أشدّ العبوس !

وصدق ابن حبّان رحمه الله حين قال:

" البشاشة إدامُ العلماء، وسجيّة الحكماء؛ لأنّ البِشْر يُطفِئُ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من السّاعي، ومن بشَّ للنّاس وجها، لم يكن عندهم بدون - أي: بأقلّ من - الباذل لهم ما يملك ".

وقال عروةُ بن الزّبير رحمه الله:" أُخبِرْتُ أنّه مكتوب في الحكمة: يا بنيّ، ليكُنْ وجهُك بَسْطاً، ولتكن كلمتك طيّبةً؛ تكنْ أحبَّ إلى النّاس من أن تُعطِيَهم العطاء ".

والله تعالى الموفّق لا ربّ سواه.



[1] لم أعثُر على قائله، ولم ينسبه ابن منظور ولا الزّبيديّ رحمهما الله لقائل، ويُروى ( ضبّا ) - بالضّاد - والله أعلم بالصّواب.

أخر تعديل في الجمعة 04 ربيع الأول 1436 هـ الموافق لـ: 26 ديسمبر 2014 20:59
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي