الثلاثاء 08 محرم 1432 هـ الموافق لـ: 14 ديسمبر 2010 23:30

- أصول النّحو العربيّ (8) الدّليل الخامس: القيــاس.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فهذا هو الدّليل الخامس من أدلّة أصول النّحو، وأهمّ مباحثه: التّعريف به، ثمّ ذكر شروطه، ونعقد فصلا في بيان المسموع الّذي حقّه أن يُقاس عليه، ثمّ بيان مسالك العلّة.

* المبحث الأوّل: التّعريف بالقياس.

قال ابن الأنباري رحمه الله في " الإعراب في جدل الإعراب " (ص45):

" هو حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه ".

والقياس هو معظم أدلّة النّحو والقواعد الكلّية، والتّعويل عليه في أغلب المسائل النّحويّة، قال ابن الأنباريّ رحمه الله في " لمع الأدلّة " (95-100):

 

" اعلم أنّ إنكار القياس في النّحو لا يتحقّق، لأنّ النّحو كلّه قياس، ولهذا قيل في حدّه: النّحو علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، فمن أنكر القياس فقد أنكر النّحو " اهـ.

ومن أمثلة ذلك:

- (كان وأخواتها)، جُمِعت في باب واحد لأجل اتّفاقها في العمل، وكثير من الأحكام ثبتت لكان أو لبعض أخواتها، لا لجميعها، ومع ذلك تُعَطَى تلك الأحكام للجميع، ما لم يأت السّماع بخلاف ذلك.

- المصادر غير الثّلاثيّة: نظر العلماء إليها فجعلوا لها أوزانا لا تخرج عنها، إلاّ إذا جاء السّماع فيُعمل به.

فالنّحو والصّرف ليسا مثل اللّغة، فاللّغة مبناها على السّماع والنّقل، لا دخل للقياس والعقل فيها، قال ابن الأنباري رحمه الله في "اللّمع":

" ... بخلاف اللّغة، فإنّها وضعت وضعا نقليّا لا عقليّا، فلا يجوز القياس فيها، بل يُقتصر على ما ورد به النّقل، ألا ترى أنّ " القارورة " سُمّيت بذلك لاستقرار الشّيء فيها، ولا يُسمّى كلّ مستقرّ فيه قارورة، وكذلك سمّيت " الدّار " لاستدارتها، ولا يُسمّى كلّ مستدير دارا " اهـ.

وللقياس شروط لا بدّ من توفّرها.

* المبحث الثّاني: شروط القياس.

أهمّ شروط القياس هي:

- الشّرط الأوّل: انعدام النصّ أو الإجماع.

فمثلا: لا يجوز الحكم ببناء كلمة ( أيّ ) الموصوليّة عند انعدام إضافتها، والقياس يقتضي البناء.

ولا يجوز إدخال ( ال ) على كلمة ( كلّ ) و( بعض ) و( غير ) بنيّة المضاف إليه، لأنّ العرب لم تفعله مع كثرة الدّاعي إليه.

- الشّرط الثّاني: ألاّ يكون المقيس عليه شاذّا.

لذلك أُثِر عن أهل العلم قولهم: ما خالف القياس[أي: القواعد العامّة]، فعليه لا يُقاس.

فليس كلّ ما سُمِع عن العرب يُقاس عليه، لذلك كان لا بدّ من عقد فصل مهمّ في بيان ذلك:

( فصل ) في أقسام المسموع.

ينقسم المسموع عن العرب إلى أقسام:

- النّوع الأول: مطّرد في القياس والاستعمال معاً[1]، وهذا هو الغاية في الفصاحة، وهو الغالب ثبوته عن العرب.

وضابطه أمران: أنّه الكلام:

أ‌) الّذي لا يخرج عن القواعد العامة المبنية على الأعم والأشمل.

ب‌) والّذي كثر استعماله في العربية.

نحو: خرج زيد، وقام عمرو. فكلّ من ( خرج) و( قام ) لم يخالفا القواعد العامّة، ولم تنطق بهما العرب إلاّ على هذا النّحو.

- الثّاني: مطّرد في القياس، شاذّ في الاستعمال.

وضابطه أمران أيضا: أنّه الكلام:

أ‌) الّذي لا يخرج عن القواعد العامّة المبنية على الأعمّ والأشمل.

ب‌) وندر استعماله.

نحو: ( وذر ) و( وَدَعَ ) ماضي ( يذر ويدع ).

فلو نظرنا إلى القواعد الصّرفيّة لوجدنا هذين الفعلين كليهما لم يخالف القواعد العامّة، فهما مثل: وزن، ووصف، ووعد.

ولكنّ ماضيهما لم يُسمع إلاّ نادرا، حتّى إنّ بعضهم يذكرهما مع المتصرّف تصرّفا ناقصا، الّذي لم يأت منه إلاّ المضارع والأمر.

والصّواب أنّهما فعلان متصرّفان تصرّفا تامّا، ويأتي منهما الماضي على نُدرة، ومنه قراءة عروة بن الزّبير:{مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ وَماَ قَلَى} [انظر " المحتسب " (2/364)].

وروى أبو داود بإسناد حسن عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: (( دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ )).

ومنه حديث أمّ زرع في صحيح البخاري حيث قالت الثّانية:" زوجي لا أبثّ خبره، إنّي أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عُجَرَه وبُجَره ".

ومن الأمثلة أيضا قولهم: ( مكان مُبْقِلٌ ) فهذا هو القياس، ولكنّ الأكثر في السّماع هو " باقل ".

- النّوع الثالث: مطّرد في الاستعمال شاذّ في القياس.

وضابطه: أنّه الكلام:

أ‌) الّذي خرج عن القواعد العامّة المبنية على الأعمّ والأشمل.

ب‌) الّذي كثر استعماله.

من ذلك: ( استحوذ )، فالقاعدة العامّة تقضي بأنْ تُبدل الواو ألفا؛ لأنّها ساكنة مفتوح ما قبلها، ونظيرها: استقام واستنار وغير ذلك.

ولكنّ الثّابت عن العرب أنّهم قالوا: (استحوذ) وتركوا القياس، قال عزّ وجلّ:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: من الآية19].

ومن ذلك أيضا قولهم: " استنوق البعير "[2].

ومن الأمثلة أيضا: ( يأبَى )، والقياس يأبِي؛ لأنّ عينه ولامه ليسا من حروف الحلق، ولا يعرف في العربيّة ( فعَل يفعَل )-بالفتح فيهما- وهو غير حلقيّ العين أو اللاّم غيرُ هذا الفعل.

وهذا النّوع يُحفظ، ولا يقاس عليه: يُحفظ ويستعمل لأنّه الثّابت، ولا يقاس عليه لمخالفته القواعد العامّة.

- النّوع الرّابع: شاذّ في القياس والاستعمال معاً.

وضابطه: أنّه الكلام:

أ‌) الخارج عن القواعد العامّة المبنية على الأعمّ والأشمل.

ب‌) ولم تستعمله العرب. وهذا النّوع مجمع على رفضه.

ومن الأمثلة ذلك قولهم: ثوب مَصْوُون، وفرس مقْوُود، ورجل معْوُود من مرضه[3].

ونعود إلى شروط القياس:

- الشّرط الثّالث: الاتّحاد في العلّة.

ومبحث العلل من أبدع وأحسن مباحث النّحو العربيّ، وعلل النّحاة قد أشار إليها سيبويه في " الكتاب " (1/32) بقوله: " وليس شيء ممّا يُضطرّون إليه إلاّ وهم يُحاولون به وجها ".

وقال أحدهم: إذا عجز الفقيه عن تعليل الحكم قال: تعبّدي، وإذا عجز النّحويّ عنه قال: هذا مسموع.

ومثاله: ( أيّ ) الموصولة: فإنّك تراها لا يعمل فيها إلاّ فعل دالّ على الاستقبال، وقد سئل الكسائيّ: لم لا يجوز: أعجبني أيّهم قام ؟ قال: أيٌّ هكذا خُلقت.

وتدرك العلّة بأمور:

- الأوّل: الإجماع: وهو أن يجمع أهل العربية على أنّ علّة هذا الحكم كذا، كإجماعهم على أنّ علّة تقدير الحركات على المقصور هو التعذّر، وفي المنقوص هو الاستثقال، وعلى أنّ علّة إعراب الأسماء احتياجها إلى ظهور المعنى.

- الثاني : النص : وهو أن ينصَّ العربي على العلة.

قال أبو عمرو: سمعت رجلا من اليمن يقول: فلان لغوبٌ أي: عييّ شديد العيّ جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول جاءته كتابي ؟ فقال: نعم، أليس بصحيفة ؟

يقصد أنّ المذكّر قد يؤنّث إذا أوّل بمؤنّث، كما أنّ المؤنّث قد يذكّر إذا أوّل بمذكّر، كقوله تعالى:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} أي: الوعظ.

ومنه قوله تعالى:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: من الآية181] بعد قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة: من الآية180]، فالضّمير في ( يبدّلونه ) عائد على الوصيّة لأنّها بمعنى الإيصاء.

وقال سيبويه في " الكتاب " (1/255):" سمعنا بعضهم يدعو: اللهمّ ضبُعا وذئبا، فقلنا له: ما أردت ؟ قال: أردتُ: اللّهمّ اجمع ضبُعا وذئبا ".

ففسّر ما نوى، وهذا تصريح بالعلّة وهي جواز حذف العامل.

- الثالث: الإيماء: وهو الإشارة إلى العلّة بخفاء، وهو أكثر العلل.

- الرابع: المناسبة: و هو أن يحمل الفرع على الأصل بالعلة التي علّق عليها الحكم في الأصل.

كجعل أحكام الفاعل للنّائب عن الفاعل.

الحاصل:

أنّه إذا انعدم الدّليل على حكم كلمة معيّنة، ولم يكن الأصل المقيس عليه شاذّا، واتّحد الأصل مع الفرع في العلّة، صحّ القياس.

والله أعلم، وأعزّ وأكرم.



[1] القياس الصّناعيّ، والاستعمال العربيّ..

[2] قال ابن أبي الحديد في " شرح نهج البلاغة " (20/214): " يقال: استنوق الجمل أي: صار ناقة، لمن يكون في حديثٍ ثمّ يَخلِطُه بغيره وينتقل إليه ".

وقال الميدانيّ في " مجمع الأمثال " (1/237): " وكان بعض العلماء يخبر أنّ هذا المثل لطرفة بن العبد، وذلك أنّه كان عند بعض الملوك، والمسيّب بن علس ينشد شعراً في وصف جمل، ثمّ حوّله إلى نعت ناقة، فقال طرفة: قد استنوق الجمل... قال أبو عبيد: يضرب هذا في التّخليط ".

[3] نقل السّيوطيّ في " الاقتراح" عن ابن هشام قال:

" اعلم أنّهم يستعملون: غالبا، وكثيرا، ونادرا، وقليلا، ومطّردا.

فالمطّرد: لا يتخلّف.

والغالب: أكثر الأشياء، ولكنّه يتخلّف.

والكثير دونه.

والقليل دونه.

والنّادر: أقلّ من القليل.

فالعشرون بالنّسبة إلى ثلاثة وعشرين غالب، والخمسة عشر بالنّسبة إليها كثير لا غالب، والثّلاثة قليل، والواحد نادر، فاعلم بهذا مراتب ما يقال فيه ذلك ".

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي