-الحكم الأوّل: المسح على الخفّين.
ممّا يحتاجه المؤمن كثيرا في فصل الشّتاء - خصوصا- وفي غيره: المسحُ على الخفّين والجوربين والنّعلين، فقد شرع الله لنا المسح على هذه الأمور الثّلاثة بدلا من غسل الرّجلين:
* أمّا المسح على الخفّين فقد اتّفق عليه العلماء جميعهم، حتّى صاروا يذكرونه في مسائل عقيدة أهل السنّة والجماعة، لمفارقة أهل الأهواء والبدع الذين ردّوا هذه السنّة.
* وأمّا المسح على الجوربين والنّعلين فالصّحيح أنّه ثابت من فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
روى أصحاب السّنن الأربعة والإمام أحمد في "مسنده" عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: )) تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ )).
وقد فشت ظاهرة التشدّد في دين الله بتقليد الفقهاء بعضهم لبعض، وبسبب جهل جمهور المسلمين بالسنّة المرسلة رحمة لأهل الأرض، حتّى إنّك لتجدهم شدّدوا في المسح على الخفّين.
فترى هذا يذكر أربعة شروط، وآخر يذكر خمسة، وثالث يذكر سبعة شروط ما أنزل الله بها من سلطان، حتّى جعلوا الرّخصة أعظم من الفرض الذي هو غسل الرّجلين.
والصّحيح أنّه لا يشترط للمسح على الخفّين والجوربين والنّعلين إلاّ شرطان اثنان دلّت عليهما النّصوص الصّحيحة:
* شروط المسح على الخفّين والجوربين:
- الأوّل: أنّه لا بدّ من أن يلبسهما المسلم على طهارة، أي بعد وضوء أو غسل.
فإن هو فعل ذلك فله أن يمسح عليهما عند الوضوء، والدّليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِي سَفَرٍ فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: (( دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ )) فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
- الثّاني: مراعاة مدّة المسح، فإن كان مقيما مسح يوما وليلة، وإن كان مسافرا مسح ثلاثة أيّام بلياليهنّ.
والدّليل على ذلك ما رواه مسلم عن شريح بنِ هانئ قال: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَتْ: عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَسَلْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم.
قال: فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: ) جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ ).
بل إنّه يُشرع للمجاهدين في سبيل الله، وأهل المصالح العامّة المستعجلة أن يمسحوا أسبوعا كاملا:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
وقد روى الطّحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/72)، والحاكم (1/18)، والبيهقيّ (1/280) عن عقبة ابن عامر رَضِي اللهُ عَنْهُ قال:
"خرجت من الشّام إلى المدينة فبلغتها يوم الجمعة، فدخلت على عمر رَضِي اللهُ عَنْهُ فقال: متى أولجت خُفّيك في رجليك ؟ قلت: يوم الجمعة. فقال: فهل نزعتهما ؟ قلت: لا. قال:" أصبت السنّة ".
وقد صحّحه البيهقي والنّووي وابن تيمية والألباني، وقال ابن تيمية في "الاختيارات" (ص15):
" لا تتوقّف مدّة المسح للمسافر الذي يشقّ عليه اشتغاله بالخلع واللّبس كالبريد المجهّز في مصلحة المسلمين ".
وهذا اختيار علماء المالكيّة رحمهم الله.
هذان شرطان: أن تُدخل رجليك في الجوربين أو النّعلين على وضوء، ثمّ إذا انتقض الوضوء فتوضّأ وامسح على الجوربين.
* متى تبدأ مدّة المسح ؟
إنّ مدّة المسح تبدأ من أوّل مسحة عليهما، لا من وقت لبسهما، فإن لبِس الإنسانُ خفّيه عند صلاة الفجر، ومسح عليهما في صلاة الظّهر، فإنّ ابتداء المدّة من الوقت الذي مسح فيه عند صلاة الظهر.
وكيفية المسح: أن يبلّ يديه بالماء، ثمّ يمرّرهما على ظهر الخفّين فقط.
* المسح على العمائم كذلك..
فإنّ من الرّخص المسح على العمائم المحنّكة، أي: التي تلفّ على الحنك، وذلك للمشقّة في نزعها، ومثله الخمار للمرأة.
- أمّا عن العمائم فقد روى البخاري ومسلم عن عمرو بن أميّة رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ.
- وأمّا عن الخمار فقد روى مسلم عن بلالٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ.
ويدخل في العمائم ما يلبس في أيّام الشّتاء من القبعات الشّاملة للرّأس والأذنين، وفي أسفله لفّه على الرّقبة فإنّه مثل العمامة لمشقّة نزعه.
هذا فيما يخصّ الحكم الأوّل من أحكام الطّهارة.
- الحكم الثّاني: احذر التّكاسل في الوضوء !
فعليك إسباغ الوضوء وإتمامه، فإنّ كثيرا من النّاس يتساهلون في الوضوء أيّام البرد الشّديد، فتراهم لا يشمّرون عن سواعدهم، ولا يمسّ الماء المرفقين ولا الكعبين.
فليعلم أنّ وضوءه حينئذ باطل لا يُلتفت إليه، وأنّ عبادته مردودة عليه.
وليتذكّر ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: بينما نحن نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِأَعْلَى صَوْتِهِ: (( وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ )) مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
وفي المقابل، عليه أن يتذكّر فضل إسباغ الوضوء على المكاره، فإنّه الرّباط:
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ: )) إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ )).
وروى التّرمذي عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ! هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قَالَ: قُلْتُ :(( لَا )) قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا فِي نَحْرِي، فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ ! هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فِي الْكَفَّارَاتِ، وَالْكَفَّارَاتُ: الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَالْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ، وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )).
قال ابن رجب:" فإنّ شدّة البرد لدينا يذكّر بزمهرير جهنّم، فملاحظة هذا الألم الموعود يهوّن الإحساس بألم برد الماء.
- الحكم الثّالث: جواز الوضوء من الماء السّاخن.
فإنّ أناسا يمتنعون من ذلك ظنّا منهم أنّه منافٍ للعبادة، وكأنّ الله يريد أن يُعذّبهم !
فليعلموا أنّه لا حرج في ذلك، فقد ثبت عن كثير من الصّحابة كابن عبّاس وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم أنّهم كانوا يتوضّئون من الحميم.
- الحكم الرّابع: الحذر من كشف المرأة لساقها.
ومن أحكام الطهارة أيضا، الحرج الّذي قد تجده كثير من المتجلببات والمتحجّبات، وذلك حين يمسّ ذيول لباسهنّ وَحَلُ الطّين غيره، فبعضهنّ - سامحنّ الله - خشية أن يصبن بذلك يرفعن شيئا من أثوابهنّ، فكنّ بذلك مخالفات للسنّة، وجالباتٍ للفتنة.
فإنّه قد جاء في سنن التّرمذي وأبي داود وابن ماجه ومسند الإمام أحمد عن أمّ ولد لِإبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف أَنَّهَا سَأَلَتْ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي، وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ )).
فلا يحلّ رفع الثّوب حتّى يظهر شيء من ساق المرأة.
كما لا يجب غسل ما أصاب الثّوب من هذا الطّين؛ لأنّ الأصل فيه الطّهارة، وقد كان جماعة من التابعين يخوضون الماء والطين في المطر ثم يدخلون المسجد فيصلّون.
لكن ينبغي مراعاة المحافظة على نظافة فرش المسجد في زماننا هذا، فننصح أخواتنا المؤمنات أن يتفهّمن ذلك، فيعصرن ما ابتلّ من ثيابهنّ، وشكر الله سعيهنّ في مرضاته، وثبّتهنّ على طاعته.
[ يـتـبـع إن شاء الله ]