الخميس 03 جمادى الأولى 1432 هـ الموافق لـ: 07 أفريل 2011 08:05

- الآداب الشّرعيّة (20) طرق الحفظ والأسباب المعينة عليه 1

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين، محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

فإنّ من الثّوابت الّتي لا تتبدّل ولا تتغيّر في منهجيّة طلب العلم وتحصيله: ضرورة الحفظ: حفظ القرآن أو ما تيسّر منه، وحفظ ما لا بدّ منه من الحديث، وشيء من متون العلم، وأشعار الحكمة من أدب العرب. وقد سبق بيان أهمّية الحفظ ومنزلته في الحلقة السّابقة بما فيه كفاية إن شاء الله.

ثمّ اعلم - أخي الكريم - أنّ وسائل الثّبات على هذا الأمر العظيم كثيرة، وأهمّها:

1- المران والتّدريب ومجاهدة النّفس:

قال الإمام الزّهري رحمه الله:"إنّ الرّجل ليطلب العلمَ وقلبُه شِعب من الشّعاب - أي: صغير -، ثمّ لا يلبث أن يصير واديا لا يوضع فيه شيء إلاّ الْتَهَمَه ".

فإذا اعتاد على الحفظ سهُل عليه؛ لأنّ ذاكرة الإنسان لا تختلف عن أعضائه، وعضلات الجسم تصلُب وتقوَى بالتّدرّب، فكذلك الحافظة تكبُر وتعظُم وتصلُب بكثرة المران؛ فكلّما استمرّ المران كلّما ازدادت قابليّة الحفظ، وإلاّ انكمشت.

وكان السّلف رحمهم الله يقولون،:" كلّ وعاء أفرغت فيه شيئا فإنّه يضيق، إلاّ القلب فإنّه كلّما أُفرِغ فيه اتّسع ".

وقال أحد العلماء:" كان الحفظ يثقل عليّ حين ابتدأت، ثمّ عوّدته نفسي، إلى أن حفظت قصيدة رؤبة - وما أصعبها !-:

وقاتَم الأعماق خاوي المخترَقْ *** مُشتبِهِ الأعلام لمّاعِ الخَفَقْ

فحفظتها في ليلة وكانت في مائتي بيت ".

وأهمّ وسيلة، وأعظمها - بل لا يمكن أن يحصل الحفظ دونها -:

2- التّكرار: فهو أعظم وسائل القرار.

فمهما حاولت أن تأتي بوسيلة أو سبيل للحفظ، فإنّه لا يمكنك أن تأتي بأفضل، ولا أعظم، ولا أحسن مردودا، ولا أوقع أثرا من التّكرار، حتّى يحصل الإتقان.

وعلى هذا السّبيل سار العلماء، وكانوا ولا يزالون إلى الآن يُوصُون بذلك.

- قال أحدهم: سمعت صائحا يصيح:" والأعمش .. عن أبي صالح عن الأعمش .. والأعمش .. عن أبي صالح عن الأعمش .." ساعة طويلة، فكنت أطلب مصدرَ الصّوت، حتّى رأيت ابن زهير وهو يدارس نفسه حديث الأعمش.

- وعن معاذ بن معاذ رحمه الله قال: كنّا عند باب ابن عَوْن، فخرج علينا شُعبة وهو يعقد بيديه جميعا، فكلّمه بعضنا، فقال: لا تكلّمني، فإنّي حفظت عن ابن عون عشرة أحاديث، وأخاف أن أنساها، فما زال يكرّرها حتّى حفظها.

- وكان الإمام الحافظ الشيرازي رحمه الله يُعِيد الدّرس مائة مرّة ! وكان الكيا الهراسي رحمه الله يعيد الدّرس سبعين مرّة !

- وكان أبو عليّ الحسن بن أبي بكر النّيسابوري يقول: لا يحصل الحفظ لي حتّى أعيده خمسين مرّة.

- وكان شيخنا الجباوي رحمه الله يوم كنّا ندرس على يديه " أوضح المسالك " يأمرنا أن نقرأ الدّرس قبل المجيء إليه عشر مرار، ثمّ إذا فرغنا من الدّرس أن نراجع الشّرح عشر مرار أخرى ! والحقّ أنّه لم يُفلح إلاّ من التزم وصيّته.

فلا تحاول أيّها الطّالب إذا كنت تريد التّأصيل لا مجرّد التثّقيف - أن تأتي بوسيلة من الوسائل غير الإعادة؛ فمهما اجتهدت، ومهما طلعت ونزلت وفعلت، فلا سبيل إلى التّحصيل إلاّ بالتّكرار والإعادة. نعم، قد تختلف وسائل الإعادة والتّكرار، لكن يبقى الأصل هو التّكرار.

- سئل البخاري رحمه الله تعالى عن سبب حفظه قال: لم أجد أنفع من مداومة النّظر.

- وحُكي أنّ فقيها أعاد الدّرس في بيته مرّات كثيرة، فقالت عجوز في بيته: والله لقد حفظته أنا. فقال لها: أعيديه، فأعادته، فلمّا كان بعد أيّام، قال: يا عجوز أعيدي عليّ الدّرس. قالت: لقد نسيته. قال:أنا أكرّر لئلاّ يصيبني ما أصابك.

وإن كان لا بدّ من التّكرار، فلا من:

3- المداومة ولو على القليل: وانظر إلى القرآن كيف كان ينزل مفرّقا حتّى يسهُل حفظُه، فقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}، فكان أثبت لحفظ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

وعلى ذلك جرى عمل الصّحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم:

- فقد روى الإمام أحمد عن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه قال: حدّثنا من كان يُقْرِئُنَا من أصْحَابِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.

- لذلك روى الإمام مالك في "الموطّأ" بلاغا أَنَّ عبدَ الله بنَ عمرَ رضي الله عنه مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا.

- وأوصى حمّاد بن أبي سليمان أحد تلاميذه قائلا:" تعلّم كلّ يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها ".

- وكان أحمد بن الفرات لا يترك كلّ يوم إذا أصبح أن يحفظ شيئا وإن قلّ.

- وقال بعضهم: من طلب العلم جملة ذهب جملة.

فلا بدّ من أن يكون حفظك كالبنيان الذي يبنى على مهل مع طول الزّمن، يقول الزّهري - وهذه تجارب حفّاظ -:" من أخذ العلم بالمكابرة عسر عليه، ولكن خذه أخذا رفيقا "، فالاقتصاد مع الإحكام أنفع بكثير.

فلا مناص من المداومة على الحفظ ولو قليلا، لأنّ بعض النّاس يحفظ أيّاما، ويترك أيّاما، بل شهورا ! والمداومة أصل من أصول الشّريعة كما لا يخفى.

فإذا حفظت القليل سهلت عليك مراجعته.

4- مراجعة العلم وتعاهُده: فإذا كرّره الأيّام الأولى مرّات ومرّات، لم يحتج إلاّ أن يراجعه بين الحين والآخر.

قالوا: إنّ القلوب تُرب، والعلم غرسُها، والمذاكرة ماؤُها، فإذا انقطع عن التّرب ماؤها جفّ غرسها؛ لذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((تََعَاهَدُوا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتاً مِنْ الإِبِلِ فِي عِقَالِهَا)).

وكان أحدهم لا يخرج بعد الغداة حتّى ينظر في كتبه، ويتعاهد المحفوظ؛ لأنّ مراجعة الحفظ السّابق أولى من حفظ الجديد، إذ المحافظة على رأس المال أولى من جلب الأرباح. وكان لبعض العلماء أوقات للمراجعة، ولا يقبل أيّ درس أو موعد أو كلام أو أيّ شيء آخر في هذه الأوقات، لأنّه وقت مراجعة.

فمن وجد من نفسه ضعفاً في الهمّة والإرادة في هذا الباب، فعليه:

5- مذاكرة العلم مع الإخوان: وهذا من الأمور المهمّة أيضا، لا يوفّق إليها إلاّ من له همّة.

روي عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه كان يقول: يا سعيد حدّث, قال: أو أُحدِّث وأنت شاهد ؟! قال: إن أخطأت فتحت عليك. يريد بذلك المذاكرة.

- وقال إبراهيم النّخعي رحمه الله:" إنّه ليطول عليّ اللّيل حتّى ألاقي أصحابي فأذاكرهم " !

إنّه رحمه الله يشتاق إلى أصحابه حتّى يذاكرهم العلم: يقرأ عليهم ويقرؤون عليه، يسرد عليهم ويسردون عليه، ويسمع إليهم ويسمعون إليه، يختبرهم ويختبرونه. فما أحلاها من مجالس ! وما أشحذها لذهن والهاجس !

- قال أبو بكر بن أبي داود رحمه الله لأبي عليّ النّيسابوري الحافظ: يا أبا عليّ، إبراهيم عن إبراهيم عن إبراهيم ؟ من هم ؟ قال: إبراهيم بن طهمان، عن إبراهيم بن عامر البجليّ، عن إبراهيم النّخعي. فقال: أحسنت.

- وهذا الإمام الزّهري يعود من مجالس العلم والحديث، فينادي جاريته ويسرد عليها عشرات الأحاديث، وهي تقول: ما عقِلت عنك شيئا ! فيقول: أعلم أنّك ما عقلت شيئا، ولكنّني أردت المذاكرة، فإنّما آفة العلم النّسيان.

وكان بعضهم إذا لم يجد الأصحاب يمرّ على الصّبيان فيعيد عليهم الحديث، لأجل المذاكرة.

6- العمل بالعلم: إذ مقتضى العلم العمل.

ولا شكّ أنّ العمل بالعلم يزيد في الحفظ ويرسّخه، وانظر إلى نفسك تجد أنّك تتقن مسائل وأدلّة الصّلاة والصّيام أكثر من غيرهما، لأنّ عملك بهما يتكرّر. ثمّ انظر إلى أحكام الزّكاة، ومسائل الحجّ، كيف يطير العلم بها !

- وقد أخطأ ابن حزم رحمه الله تعالى في مسألة في أحكام الحج، فقال الشّوكاني رحمه الله:" لا أجد له عذرا إلاّ أنّه لم يحجّ ".

- وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى لا يضع حديثا في " المسند " حتّى يعمل به، حتّى إنّه مرّة احتجم وأعطى الحجّام دينارا، لفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

- وقال إسماعيل بن إبراهيم بن مجمع بن جارية: كنّا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به.

7- تعليم العلم للنّاس: فزكاة العلم أداؤه، وإنّ المال يبارك له فيه بالزّكاة، فكذلك العلم.

قال أبو إسحاق الألبيري رحمه الله يصف العلم:

وكنز لا تخاف عليه لصّـا *** خفيف الحمل يوجد حيث كنت

يزيد بكثرة الإنفـاق منه *** وينقـص إن بـه كفّـاً شددت

وكلّما بلّغت العلم رسخ في الذّهن، لأنّه نوع من المذاكرة كما لا يخفى.

وزينة الوسائل، وأهمّ ما يعين على حفظ المسائل: الإخلاص وتقوى الله عزّ وجلّ.

وهذا ما سوف نتحدّث عنه لاحقا مع بقيّة الوسائل إن شاء الله.

أخر تعديل في الخميس 03 جمادى الأولى 1432 هـ الموافق لـ: 07 أفريل 2011 08:10
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي