الاثنين 15 رمضان 1432 هـ الموافق لـ: 15 أوت 2011 16:02

- نذرُ المباح

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فإنّ الأصل في النّذر أنّه مكروه، كما قال جمهور الفقهاء ( الحنابلة، والمالكيّة، وأكثر الشّافعيّة، وابن حزم ).

ذلك لما رواه البخاري ومسلم عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال:" نَهَى النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ النَّذْرِ، وقالَ: (( إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ ))، وفي رواية: (( إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ )).

بل إنّ من الفقهاء من قال بحرمته لأجل هذا الحديث، وهو ما نقله البعليّ رحمه الله في "الاختيارات" عن بعض المحدّثين.

ثمّ إنّ النّذر لا يخلو من أن يكون:

أ) نذر طاعة: فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يجب الوفاء به، ويُسمّى نذرَ التبرّر أيضا.

ب) وإن كان نذرَ معصيةٍ: فاتّفقوا على أنّه لا يحلّ الوفاء به؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ )).

ج) أن يكون نذر شيء مُباحٍ: فاختلفوا في نذر المباح، هل يجب الوفاء به أو لا ؟ على قولين:

1- القول الأوّل: أنّه لا ينعقد فلا يُوفَّى به.

وهو مذهب جمهور أهل العلم ( الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة)، قال النّووي رحمه الله في "المجموع":

" إذا نذر مباحا كلُبسٍ أو رُكوبٍ لم ينعقد عندنا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وداود، والجمهور، ودليلنا أنّه ليس بقُربة، والوفاء به لا يجب بالإجماع فلا ينعقد ".

وقال السّمرقندي رحمه الله في " تحفة الفقهاء ":" إن كان مباحا لا يجب عليه شيء ".

واستدلّوا بما يلي:

- ما رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: بَيْنَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ ! فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فقالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ )).

والشّاهد أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمره بإتمام الصّوم لأنّه قربة، وأمره بنقض ما نذره مباحا لأنّه ليس قربة، قاله البيهقيّ رحمه الله.

- ما رواه أبو داود عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً قَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ نَذْرِهَا، مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ )).

2- القول الثّاني: أنّه ينعقد ويجب الوفاء به.

وهو مذهب الحنابلة [انظر: " المغني " (11/336)].

واستدلّوا:

- بما رواه أبو داود والتّرمذي عن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ، بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى ! فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِلَّا فَلَا ))... الحديث.

- ما رواه مسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ )). فنفَى النّذر عن معصية الله، فيبقى ما عدا المعصيةَ ثابتاً.

- قالوا: لو حلف على مباح وجب أن يبرّ، فكذلك النّذر؛ لأنّهما سواء.

التّرجيح:

الرّاجح - والله أعلم - هو قول الجمهور، ويُجاب عن أدلّة الحنابلة بما يلي:

- أمّا حديث الضّاربة بالدفّ، فقد قال ابن القيّم رحمه الله:

" وله وجهان:

أحدهما: أن يكون أباح لها الوفاءَ بالنّذر المباح تطييبا لقلبِها، وجبراً وتأليفاً لها على زيادة الإيمان، وفرحِهَا بسلامة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

والثّاني: أن يكون هذا النّذرُ قربةً؛ لِمَا تضمّنه من السّرور والفرح بقدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سالما مؤيَّداً منصوراً على أعدائه، وهذا من أفضل القُرب فأمرت بالوفاء به " [" أعلام الموقّعين " (4/401)].

- أمّا الاستدلال بحديث: (( لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ ))، فهذا لا مفهوم له؛ لأنّه جاء الدّليل أنّه لا يجب الوفاء في المباح.

- وأمّا قياس النّذر على اليمين فقياس في مصادمة النّص؛ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرّق بينهما حين أمر من نذر القيام والتعرُّض للشّمس بنقض النّذر.

تنبيه:

إنّ في عدِّ الضّرب بالدفّ مباحا نظر؛ لأنّ حكم الدفّ هو الحُرمة، كسائر آلات الطّرب، وإنّما أجازه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في العيدين فحسب، كما بيّن ذلك ابن القيّم رحمه الله نفسُه في " إغاثة اللّهفان (1/260)".

روى البيهقي بسند صحيح عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:" الدُفُّ حَرَامٌ، وَالمَعَازِفُ حَرَامٌ، وَالكُوبَةُ حَرَامٌ، وَالمِزْمَارُ حَرَامٌ " [انظر: " تحريم آلات الطّرب" للألباني رحمه الله].

والظّاهر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جعل الفرحَ برجوعِه سالماً مشابهاً للفرح في يومَيْ العيد؛ لذلك أجازه.

والله أعلم، وأعزّ وأكرم.

أخر تعديل في الاثنين 15 رمضان 1432 هـ الموافق لـ: 15 أوت 2011 16:03
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي