إنّني أقصد ما رواه التّرمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا )) قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: (( حِـلَـقُ الذِّكْـرِ ))...
فتأمّل وانظر أيّها المحبّ للعلم وأهله .. انظر يا من يبغي رفع الكثير من جهله ..
انظر يا من يترك كلّ شيء خلفه مقبلا على مجالس الخير والصّلاح، ومنابر الفوز والفلاح ..
انظر يا من يمشي الأميال الطّوال، ابتغاء العلم بأحكام الله الكبير المتعال ..
واحفظ مقولة نبيّك صلى الله عليه وسلّم ليُثبّتك الله مع المثـبَّـتيـن، ويعيذك من رقية المثـبَّـطـيـن ..
لئن رفع الغنـيّ لـواء مـال لأنـت لواء علمك قد رفعتـا
وإن جلس الغنى عـلى الحشايا لأنت على الكواكب قد جلستا
وإن ركب الجيـاد مسوّمـات لأنـت منـاهج التّقوى ركبتا
ثمّ انظر يا من رضي بالقعـود، ولم يحزنه أن يكون مع الرّقـود .. {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) }..
انظر يا من أعرض عن مجالس العلم وطلبته، فما كان من سامعيه ولا حفظته: قال أبو هريرة رضي الله عنه -كما في الصّحيحين-: أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم، وَذَهَبَ وَاحِدٌ ... فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم قَالَ: (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ: أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ )).
انظر كي يُنجِيَك الله من غفلة الغافلين، ولا يحشرك في زمرة القاعدين ..
تأمّل الثّواب والأجر، فلمَ الإعراض والهجر ؟!!
وليس لجاهـلٍ في النّاس معـنى ولو ملـك العـراق لـه تـأتّـى
وما يغنيك تشيـيـد المبـانـي إذا بالجهـل نفسـك قـد هدمـتا
جعلت المال فوق العلم جـهـلا لعمرك فـي القـضيّـة ما عدلتـا
وبينهـما بنـصّ الوحـي بـون سـتـعـلمـه إذا (ـ طـه ) قرأتا
ونفسك ذمّ لا تذمـم سـواهـا بعيب فهـي أجـدر من ذمـمـتا
فلو بكت الدِّمـا عينـاك خـوفا لذنبك لم أقـل لك: قـد أمِنـتـا
ومن لك بالأمـان وأنـت عبـد أمرت فما أئتمـرت ولا أطـعـتـا
تفـرّ من الهـجـير وتتّـقـيـه فهلاّ مـن جـهنّـم قـد فـررتـا
ما أحرى بكلّ مسلم ومسلمة أن يقف فيتأمّل ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم في فضل طلب العلم:
1- عَنْ مُعَاوِيةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم: (( مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ )) [مُتَّفَقٌ عَليهِ].
2- وَعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم: (( لاَ حَسَدَ إلاَّ في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ الله مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتاهُ الله الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا، وَيُعَلِّمُهَا )) [مُتَفق عليه].
3- وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم: (( مَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثِ أَصَابَ أَرْضاً فَكَانَتْ مِنْهَا: طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ، وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ الله بِهَا النَّاسَ ؟ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وأَصَابَ طَائفةً مِنْهَا أُخْرَى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لا تُمْسِكُ مَاءً، وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ الله، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ )) [متفقٌ عليهِ].
4- وَروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّم قَالَ: (( وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَلَ الله لَه بِهِ طَرِيقاً إلى الجَنَّةِ )).
والسّلوك نوعان:
مادّي: وهو أن تسير إلى مكان الذّكر والعلم، فأبشر بما رواه الطّبراني عن أبي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم قَالَ: (( مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْراً أَوْ يَعْلَمُهُ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامَّةٍ حَجَّتُهُ )).
واعلم أنّ هناك جماعة مختصّة في هذه البلاد وغيرها، مسخّرة لغرض واحدٍ فحسب وهو البحث عن حلقات الذّكر والعلم، فهي تبحث عنك في حلقات تحفيظ القرآن الكريم، فإن لم تجدك ربّما كنت في مجالس الفقه، وربّما في مجالس العلم بالتّوحيد وغير ذلك من العلوم النّافعة، فإلى متى لا تثبت حضورك ؟
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم:
(( إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ:
مَا يَقُولُ عِبَادِي ؟
قَالُوا: يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ.
فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي ؟
فَيَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ.
فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي ؟
يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا.
يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي ؟
قَالوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ.
يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا ؟
يَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا.
يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا ؟
يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً.
قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ ؟
يَقُولُونَ: مِنْ النَّارِ.
يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا ؟
يَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا.
يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟
يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً.
فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ.
قَالَ: فيَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ، لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ.
قَالَ: هُمْ الْجُلَسَاءُ، لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ )).
وهناك سلوك معنويّ: وهو قراءة الكتاب، وسماع الشّريط ونحو ذلك، فكلّ ذلك خير.
5- وَروى مسلم أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم: (( إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: إلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدِ صَالح يَدْعُو لَهُ )).
6- وَروى التّرمذي عَنْ أبي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلّم قَالَ: (( فَضْلُ الْعَالِمِ عَلى الْعَابِدِ كَفَضْلي عَلى أَدْنَاكُمْ )) ثُمَّ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم: (( إنَّ الله وَملائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُونَ عَلى مُعَلِّمِى النَّاسِ الخَيْرَ )).
7- وَروى أبو داود والتّرمذي عَنْ أَبي الدَّرْداءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي فِيهِ عِلْماً لسَهَّلَ الله لَهُ طَرِيقاً إلى الجَنَّةِ، وَإنَّ
المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضىً بِما يَصْنَعُ، وَانَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأرْضِ حَتَّى الحِيتَانُ في المَاءِ )).
هذا عظيم فضل الله بين يديك، وجزيل ثوابه يزفّ إليك، فما عليك إلاّ أن تقبل قائلا: لبّيك ربّي وسعديك ..
وكما قال تعالى في كتابه الميمون: { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }.
سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.