إذاً، فالصّيام كان مفروضا على الأنبياء السّابقين .. كان مفروضا على اليهود .. وكان مفروضا على النّصارى .. لكنّهم حرّفوا..
حرّفوا معالِمه كما حرّفوا التّوراة والإنجيل، فصار لكلّ طائفة منهم صيامٌ حسَبَ أذواق الأحبار والرّهبان !
أمّا اليوم، فقد جاء محمّد صلّى الله عليه وسلّم وفرض الله الصّيام .. كلّ ذلك تهيئة لنفوس المسلمين وقلوب المؤمنين لحمل دعوة الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.
كان الصّيام من قبلُ هو: الإمساك عن شهوتَي الفرج والبطن من الفجر إلى غروب الشّمس، إلاّ أنّه يحلّ الأكلُ بعد المغرب ما لم يَنَمْ، وإلاّ لزِمَه الصّوم إلى غروب شمس اليوم التّالي.
ولكنّ الله تعالى في أوّل الأمر فرضه على الخِيار: إمّا أن يصوم، وإمّا أن يُطعم مكان كلّ يوم مسكينا.. وكان أكثر من في المدينة يصوم لفقره، فلا شيء لديه يطعمه المساكين .. فقد عمل معظمُهم بقوله تعالى آخِرَ الآية:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
ولم يدُم ذلك إلاّ أيّاماً، إذ تغيّرت الأحكام، ففرض الله عليهم جميعِهم الصّوم .. فلم يبق خيار لأحد، إلاّ:
أ) التّخفيف عن المسافر والمريض، فعليهما القضاء.
ب) والمريض الّذي لا يُرجى برؤه والشّيخ الفاني، والحامل والمرضع فإنّ عليهم الفدية.
روى البخاري ومسلم وأبو داود - واللّفظ له - عن سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قال:" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ مِنَّا أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ فَعَلَ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا ".
وتلاها عليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
فعلموا أنّه لا بدّ من صيام شهر نزل فيه القرآن الكريم، بل أخبرهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ هذا الشّهر شهر الكتب المنزّلة.
ففي مسند الإمام أحمد عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام في أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ )) ["صحيح الجامع"].
فكان حقّاً على الجميع أن يصومه.
ومقابل ذلك، أتاهم الله بالتّيسير.. فخفّف عنهم في جانب آخر.. وإذا أراد الله شيئا هيّأ له أسبابه، ومن المحن تأتي المنح.
السّبب الأوّل: ما رواه أبو داود عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، قال:
" كَانَ النّاسُ على عَهْدِ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم إذَا صَلَّوْا العَتَمَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ، وَصَامُوا إِلَى الْقَابِلَةِ، فَاخْتَانَ رَجُلٌ نَفْسَهُ، فَجَامَعَ امْرَأَتَهُ وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ، وَلَمْ يُفْطِرْ !
فَأَرَادَ اللهُ عزّ وجلّ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ يُسْرًا لِمَنْ بَقِيَ، وَرُخْصَةً وَمَنْفَعَةً، فقالَ سبحانه:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}..الآيةَ، وَكَانَ هَذَا مِمَّا نَفَعَ اللهُ بِهِ النَّاسَ، وَرَخَّصَ لَهُمْ ويَسَّرَ ".
السّبب الثّاني: وهو ما رواه البخاري عن البرَاءِ رضي الله عنه قالَ: كانَ أصحَابُ محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا كَانَ الرّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ.
وإِنَّ قيْسَ بنَ صِرْمَةَ الأنْصارِيَّ رضي الله عنه كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ، أَتَى امْرَأَتَهُ فقالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قالتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ.
وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ !
فلمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ، غُشِيَ علَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فنَزلَتْ هذهِ الآيةُ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}".
هذا فضل الله تعالى ورحمته {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
وكان أشدّهم فرحا هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .. وسوف نرى سبب غبطته في الحلقة السّابقة إن شاء الله تعالى.