السبت 16 رجب 1432 هـ الموافق لـ: 18 جوان 2011 18:53

- شرح كتاب الذّكر (8) ذكر الله حياة القلوب

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

- الحديث الرّابع عشر:

وعن أبي موسَى رضي الله عنه قال: قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم:

(( مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ )).

رواه البخاري ومسلم، إلاّ أنّه قال: (( مَثَلُ البَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ )).

- شرح الحديث:

هذا أبلغ الأحاديث في بيان فضل الذّكر، حيث جعل الذّكر بمثابة الرّوح للجسد، وقد سمّى الله عزّ وجلّ كتابه العزيز روحاً –وهو أعظم أنواع الذّكر–؛ فقال عزّ من قائل:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشّورى من: 52].

وكلّما كان العبد أكثر ذكرا لله تعالى كان أكثر إحساسا، فيرى المعروف معروفا، والمنكر منكرا، والحقّ حقّا، والباطل باطلا، وإلاّ:

( ............ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيـلاَمُ )

قال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام من: 122].

قال ابن القيّم رحمه الله في " الوابل الصيّب " عن الذّكر:

" أنّه يورث حياة القلب، وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدّس الله تعالى روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسّمك، فكيف يكون حال السّمك إذا فارق الماء ؟ "اهـ.

وقد ذكر المصنّف رحمه الله الحديث بلفظين مختلفين:

اللّفظ الأوّل: فيه تشبيه الذّاكر بالحيّ، وغير الذّاكر بالميّت.

واللّفظ الثّاني: فيه تشبيه بيت الذّاكر بالحيّ، وبيت غيره بالميّت.

قال ابن القيّم رحمه الله في " مدارج السّالكين " (2/429):

" فتضمن اللّفظان: أنّ القلب الذّاكر كالحيّ في بيوت الأحياء، والغافل كالميت في بيوت الأموات. ولا ريب أنّ أبدان الغافلين قبورٌ لقلوبهم، وقلوبهم فيها كالأموات في القبور، كما قيل:

فنسيان ذكرِ الله مـوتُ قلـوبِهم *** وأجسـامُهم قبلَ القُبـورِ قبورُ

وأرواحهم في وحشة من جسومهم *** وليس لهم حتّى النّشور  نشـور

وسبب الموت قلّة الغذاء، وسبب الجفاف قلّة الماء:

- فمن ابتغَى النّجاة من موت القلب، فليُكثِر من ذكر الله، قال ابن القيّم رحمه الله في " الوابل الصيّب " عن الذّكر:

" أنّه قُوتُ القلب والرّوح، فإذا فقدَه العبدُ صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قُوتِه، وحضرت شيخَ الإسلام ابنَ تيمية مرَة صلَّى الفجر، ثمّ جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النَهار، ثمَ التفت إليَ، وقال: هذه غَذْوَتِي، ولو لم أتغذّ الغذاء سقطت قوّتي ! ..."اهـ

- ومن ابتغى النّجاة من جفاف القلب وقسوته، فلْيُكثر من ذكر الله، قال ابن القيّم رحمه الله في " الوابل الصيّب " أيضا:

" إنّ في القلب قسوةً لا يُذِيبها إلاّ ذكرُ الله تعالى، فينبغي للعبد أن يُدَاوِي قسوةَ قلبِه بذكر الله تعالى، وذكر حمّادُ بنُ زيدٍ عن المعلّى بن زياد أنّ رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوةَ قلبي ؟ قال: أَذِبْهُ بِالذِّكْر.

وهذا؛ لأنّ القلب كُلّما اشتدّت به الغفلة، اشتدّت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرّصاص في النّار، فما أُذِيبت قسوةُ القلوب بمثل ذكر الله عزّ وجلّ " اهـ.

***

- الحديث الخامس عشر:

وعن أبي هريْرةَ رضي الله عنه قال:

كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ( جُمْدَانُ ) فَقَالَ:

(( سِيرُوا، هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ )). قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:

(( الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ )).

[رواه مسلم، واللّفظ له، والتّرمذي ولفظه ...].

- شرح الحديث:

- قوله: ( المفرّدون ) - بفتح الفاء وكسر الرّاء -.

قال ابن قتيبة رحمه الله:" وأصل المفرّدين: الّذين هلك أقرانهم، وانفردوا عنهم، فبقوا يذكرون الله تعالى ".

ويؤيّد هذا المعنى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما كان يرغّب في ذكر معيّن، ثمّ يبيّن لأمّته أنّه لن يأتي أحدٌ بمثلِ ما يأتي به، فبذلك سبقوا وانفردوا.

من ذلك قولُه صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، أَوْ زَادَ عَلَيْهِ )) [رواه مسلم].

ومثله قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث أهل الدّثور: (( أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ ؟ )) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: (( تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ، دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً )).

- قول المصنّف رحمه الله: " والتّرمذي ولفظه ... "، حذف الشّيخ الألباني رحمه الله لفظ التّرمذي لأنّه لا يصحّ، وهو: "قَالُوا وَمَا الْمُفْرِدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: ( الْمُسْتَهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ، فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا ".

والله أعلم.

أخر تعديل في السبت 16 رجب 1432 هـ الموافق لـ: 18 جوان 2011 18:55
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي