الثلاثاء 22 رجب 1433 هـ الموافق لـ: 12 جوان 2012 14:48

- السّيرة النّبويّة (70) غزوة بدر الكبرى: البداية

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد كان لهذا الحدث العظيم بدايتان: بداية نرى تفاصيلها بمكّة .. وأخرى نرى تفاصيلها بالمدينة.

أمّا في مكّة .. فأيّام رمضان بها تختلف كثيرا عنها في المدينة .. كان النّهار بالمدينة صياما، وليلها قياما..

في مكّة كانت تتردّد زفرات رجال ونساء وصبية مستضعفين، يمنعهم الضّعف من البوح بتوحيدهم ودينهم واتّباعهم للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.. أسرارهم كجمرات في صدورهم .. منهم زينب بنت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .. وابن عبّاس رضي الله عنه.. وأمّه لبابة بنت الحارث وغيرهم كثيرون ممّن{لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}..

وفي ليلة من تلك اللّيالي بمكّة هبّت امرأة من نومها فزعةً ! فقد رأت في منامها فارسا ولكنّه ليس فارس أحلام .. ولكنّه مرمّل النّساء وصانع الأيتام .. جاء ليتوعّد أهل مكّة بالموت المحقّق.

إنّها عاتكة بنت عبد المطّلب عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. فهل ستصدُق رؤياها كما صدقت رؤيا والدها الّذي حفر بئر زمزم ؟

سندع هذه المرأة تحدّثنا عن رؤياها ..

روى ابن إسحاق رحمه الله عن ابن عبّاس رضي الله عنه وعروة بن الزّبير، والطّبراني عن عروة بن الزّبير قال:

" كانت عاتكةُ بنتُ عبد المطّلب عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساكنةً مع أخيها العبّاس بن عبد المطّلب، فرأت رؤيا قبيل بدر، ففزعت، فأرسلت إلى أخيها عبّاس من ليلتها حين فزعت واستيقظت من نومها، وقالت:

رأيت رؤيا، وقد خشيت منها على قومك الهلكةَ !

قال: وما رأيت ؟

قالت: لن أحدّثكَ حتّى تعاهدني أن لا تذكرها، فإنّهم إن سمعوها آذوْنا فأسمعونا ما لا نحبّ.

فعاهدها عبّاس، فقالت: رأيت راكبا أقبل على راحلته من أعلى مكّة يصيح بأعلى صوته:" يا آل غُدَر ! ويا آل فُجَر ! اخرُجُوا في ليلتين أو ثلاث ".

ثمّ دخل المسجد على راحلته، فصرخ في المسجد ثلاث صرخات، ومال إليه من الرّجال والنّساء والصّبيان، وفزع النّاس له أشدّ الفزع، ثمّ أراه على ظهر الكعبة على راحلته فصاح ثلاث صرخات:

" يا آل غُدَر ! ويا آل فُجَر ! اخرجوا في ليلتين أو ثلاث حتىّ أسمع من بين الأخشبين من أهل مكّة. ثمّ عمد لصخرة عظيمة فنزعها من أصلها، ثمّ أرسلها على أهل مكّة، فأقبلت الصّخرة لها دويّ حتّى إذا كانت عند أصل الجبل أرفضت[1]، فلا أعلم بمكّة بيتا ولا دارا إلاّ قد دخلها فلقةٌ من تلك الصّخرة.

فلقد خشيت على قومك أن ينزل بهم شرّ !

ففزع منها عبّاس، وخرج من عندها، فلقي من آخر ليلته الوليدَ بنَ عتبة بنِ ربيعة، وكان خليلا للعبّاس، فقصّ عليه رؤيا عاتكة، وأمره أن لا يذكرها لأحدٍ.

فذكرها الوليد لأبيه، وذكرها عتبةُ لأخيه شيبة، وارتفع حديثها، حتّى بلغ أبا جهل بنَ هشام، واستفاضت.

فلمّا أصبحوا، غدا عبّاس يطوف بالبيت حين أصبح، فوجد أبا جهل، وعتبةَ بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأميّة بن خلف، وزمعة بن الأسود، وأبا البختري في نفر يتحدّثون، فلمّا نظروا إلى عبّاس يطوف بالبيت، ناداه أبو جهل: يا أبا الفضل، إذا قضيت طوافك فائتنا.

فلمّا قضى طوافه، أتى فجلس، فقال أبو جهل: يا أبا الفضل، ما رُؤيا رأتها عاتكةُ ؟

قال: ما رأت من شيء.

قال: بلى، أما رضيتم يا بني هاشم بكذبِ الرّجال حتّى جئتمونا بكذب النّساء ؟! إنّا كنّا وأنتم كفرسَيْ رهان، فاستبقنا المجدَ منذ حين، فلمّا تحاذت الرّكب قلتم: منّا نبيّ ! فما بقي إلاّ أن تقولوا منّا نبيّة ! لا أعلم في قريش أهلَ بيتٍ أكذبَ رجلا ولا أكذبَ امرأةً منكم.

فآذوه يومئذ أشدّ الأذى.. وقال أبو جهلٍ:

زعمت عاتكة أنّ الرّاكب قال: اُخرجوا في ليلتين أو ثلاث، فلو قد مضت هذه الثّلاث تبّين لقريش كذبُكم، وكتبنا سِجِلاّ، ثمّ علّقناه بالكعبة أنّكم أكذب بيت في العرب رجلاً وامرأةً، أما رضيتم يا بني قصيّ أنّكم ذهبتم بالحجابة، والنّدوة، والسّقاية، والرّفادة، حتّى جئتمونا زعمتم بنبيّ منكم

قال العبّاس: فلمّا أمسيتُ لم تبق امرأة من بني عبد المطّلب إلاّ أتتني، فقُلنَ: أصبرتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم حتّى تناول نساءَكم، وأنت تسمع فلم يكن عندك في ذلك غيرة ؟!

فقال: قد والله صدقتنّ، وما كان عندي في ذلك من غيرة إلاّ أنّي قد أنكرت ما قال، فإن عاد لأكفينّه.

ولقي عبّاس من عاتكة أذًى شديدا فيما أفشى من حديثها.

قال العبّاس:" فقعدت في اليوم الثّالث أتعرّضه ليقول شيئا فأشاتمه، فوالله إنّي لمُقبل نحوه، فإذا صوتُ ضمضمِ بنِ عمرو وهو واقف على بعيره بالأبطح قد حوّل رَحْله، وشقّ قميصه، وجدع بعيره، يقول:

يا معشر قريش، اللّطيمة اللّطيمة[2] ! أموالُكم مع أبي سفيان وتجارتُكم قد عرض لها محمّد وأصحابه ! فالغوثَ الغوثَ !

قال العبّاس: فشغله ذلك عنّي، وشغلني عنه، فلم يكن إلاّ الجهاز حتّى خرجنا ".

فها هي قريش ترى صِدقَ رؤيا عاتكة بنت عبد المطّلب وكذبَ أبي جهل .. فثار الجميع لذلك، وطاش عقل أبي جهل، وطاش عقل أميّة بن خلف، فهو يشمّ رائحةَ الموت تقترب منه كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

أمّا البداية في المدينة .. فكانت بعد أن خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من بيت ابنته رقيّة رضي الله عنها.. بيتها الّذي كان ساكنا إلاّ من أنينها.. وعثمان رضي الله عنه أمامها ينظر إلى زوجته كوردة تذبل يوما بعد يوم..

فأوصى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بها عثمان رضي الله عنه، وأمره بالمكوث عندها، وكان ذلك أشدّ عليه من مرض زوجته، فإنّه سيفوته الخروج مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى معركة كتب لها أن تفصل بين الكفر والإيمان.

ولكنّه لو خرج معه لفاتته رقيّة رضي الله عنها، وربّما رحلت عنه، فكان في حيرة من أمره، لم يُزِلها إلاّ أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم له بالمكوث معها.

فخرح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعدما ألقى عليها نظرة الوالد المحبّ الحاني، وودّعته هي أيضا بعينين حزينتين، فاستودعها الله وتركها.

وترى مرارة الوداع في كلماتها ونظراتها، ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم كان أكثر مرارة:

فهناك ابنته الأخرى بمكّة تحت كافر بالله لا يستطيع رؤيتَها .. هناك أصحابه المعدِمون الّذين يتزاحمون في صفّة مليئة بالجوع ..

هناك قريش تسرح وتمرح وتتاجر بأموال أصحابه .. هناك أمّة تحتاج إلى قائد يقودها ..

فلم يكن هناك بدّ في أن قدّم حاجة أمّته على حاجته، ومصلحتها على هموم أسرته...

فخرج، ولكن إلى أين ؟.. هذا أنس بن مالك رضي الله عنه كان معه يخبرنا عن ذلك فلننصِت إليه..

روى مسلم عن أنَسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال:" بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بُسَيْسَةَ عَيْنًا (أي: جاسوسا) يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَ وَمَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم..".

مهمّة أحاطها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسياج من السرّية، وهي تحسّس أخبار القافلة القرشيّة القادمة من الشّام نحو مكّة، والّتي يقودها أبو سفيان بن حرب.. أمره اين يعرف طريقها.

وتمّت المهمّة بنجاح، يقول أنس رضي الله عنه في تتمّة الحديث السّابق:" فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ -أي أخبره بما رآه - فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَتَكَلَّمَ، فَقَالَ:

(( إِنَّ لَنَا طَلِبَةً[3]، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا ))[4].

فما الّذي كان بعد ذلك ؟ هذا ما سوف نراه لاحقا إن شاء الله تعالى.



[1] تفرّقت وتطايرت متحوّلة إلى أحجار صغيرة وشظايا.

[2] الجمال التي تحمل العطر والبزّ وأشرف أموال العرب.

[3] قوله صلّى الله عليه وسلّم: ( إِنَّ لَنَا طَلِبَةً )) - بفتح الطّاء وكسر اللاّم - أي: شيئا نطلبه.

[4] قال النّوويّ رحمه الله:" في هذا استحباب التّورية في الحرب، وألاّ يبيّن الإمام جهة إغارته وإغارة سراياه، لئلاّ يشيع ذلك فيحذرهم العدوّ ". اهـ

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي