السبت 04 رجب 1435 هـ الموافق لـ: 03 ماي 2014 09:55

- السّيرة النّبويّة (82) الرّجوع من بدر إلى المدينة.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد رأينا عودَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة النّبويّة .. رأيناه يتساءل عن حال ابنته وحبيبته رقـيّـة رضي الله عنها. 

وظهرت الإجابة على وجه عثمان رضي الله عنه ووجه أسامة بن زيد رضي الله عنه الّذي أرسله يتفقّد عن حالها.

حزن غمر القلوب فظهر على الوجوه .. لقد ماتت رضي الله عنها.. ماتت ووالدها صلّى الله عليه وسلّم بعيد عنها.

وكان أكبر حظّ من الحزن قد غمر قلب بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة وأمّ كلثوم .. إنّهما يريان أختَهما - الّتي طالما عشن معها سويّا، وركضن سويّا.. وتواثبن سويّا - تلفظ أنفاسها الأخيرة !

فأين أمّهم خديجة ؟ وأين والدهم صلّى الله عليه وسلّم ؟ وأين أختهما الكبرى زينب حتّى ينثرن على صدورهم شيئا من الدّموع ؟

ماتت قبل أن يصل زيدٌ بخبر الانتصار .. روى ابن إسحاق عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: فأتانا الخبر حين سوّينا التّراب على رقيّة ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقيل له: ذاك أبوك ! قال أسامة: فجئته وهو واقف بالمصلّى قد غشيه النّاس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة ! وشيبة بن ربعية ! وأبو جهل بن هشام ! وزمعة بن الأسود ! وأبو البخترى العاص بن هشام ! وأميّة بن خلف ! ونبيه ومنبه ابنا الحجّاج ! قال: قلت: يا أبت أحقٌّ هذا ؟ قال: نعم والله يا بنيّ.

فاختلط الحزن في أجواء المدينة بالفرح، وابتهج المهاجرون والأنصار بالخبر الّذي لا يُصدّقه إلاّ مؤمن.. وخفّف عنهم حزنهم على بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

ولا أحد يدري الحيرة الّتي اكتنفت النّاس يوم قدم عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. أيهنّئونه بنصر الله أو يعزّونه في رقيّة ؟!

ولكنّه قدر الله وما شاء فعل.

وصار أهل كلّ بيت يتطلّعون إلى أبنائهم وأزواجهم..

فهذه أم حارثة بن سراقة تبحث عن ولدها بين النّاس، فقالت: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ ؟ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ ؟ قَالَ: (( يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى )).

لقد سافر حارثة إلى الفردوس وعادت أمّه وحدها إلى بيتها صابرة محتسبة.

وهاهي أمّ عمير بن أبي وقّاص رضي الله عنه .. وها هي أمّ عمير بن الحمام رضي الله عنه ..

وهذه عفراء حزينة على صغيرها.. عاد الرّجال من القتال، عادوا بالأسرى والجمال ولم يعودوا بالأطفال الصّغار .. لم يعُد إليها معوّذ رضي الله عنه ..

ولكنّ الإسلام حوّل أسباب الحزن إلى مبعث للسّعادة.. وحوّل دموع الشّقاء إلى دموع فرح وهناء: (( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ )) [رواه مسلم هن صهيب رضي الله عنه].

وأصبح أهل المدينة على يوم جديد.. امتلأت فيه المدينة بالجمال والخيول والأحمال.. فقد استجاب الله لدعاء نبيّه صلّى الله عليه وسلّم: (( اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَانْقَلَبُوا حِينَ انْقَلَبُوا وَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أَوْ جَمَلَيْنِ وَاكْتَسَوْا وَشَبِعُوا )).

وأصبح المنافقون من اليهود والمشركون بالمدينة يأكلهم الغيظ والحقد، وهم يرون المؤمنين في فرح وعناق في الشّوارع وعلى الأبواب، أولئكم الّذين أخبر الله عنهم أنّهم كانوا على يقين بأنّ محمّدا وأصحابه قد ذهبوا إلى حتفهم، قال تعالى:{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49].

ونرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بيته حزينا على رقيّة الّتي توفّيت ولم يرها.. وسرعان ما تذكّر أختها الأخرى زينب رضي الله عنها البعيدة خلف جبال مكّة .. وما إن تذكّر زينب حتّى تذكّر زوجَها المشركَ وابنَ خالتها[1] أبا العاص بن الرّبيع.. فهو هنا بين الأسرى، فما إن تذكّره حتّى سارع إليه ليحدّثه في زينب وأن يُخلّي سبيلها.

روى أبو داود بسند حسن عنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أَخَذَ عَلَيْهِ أَوْ وَعَدَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ ".

وسوف ينفّذ أبو العاص ويفي بوعده، فقد كان رجلا شهما كريما.. ولا بدّ أن تقدِم زينب إلى المدينة، فإنّ مكّة قد تلوّث مناخها بالعويل والنّواح، والبكاء والصّراخ.. وشُقّت الثّياب، ونُثِر التّراب على الرّؤوس.. أصاب مكّةَ الحجر الّذي أخبرتهم به عاتكة بنت عبد المطّلب..وأحدث نزيفا في قلب كلّ قرشيّ.. وأصابت شظاياه كلّ بيت من بيوت مكّة.. حتّى بيتها قد دخله الحزن، فالعبّاس وعقيل ونوفل أسارى في أيدي المسلمين.

أمّا هند فلا تسأل عن نحيبها، فقد أصيبت بما لم يُصَب به غيرُها..

وزوج أبي جهل ما عساها فعلت وقد بلغها خبر مقتل زوجها على يد غلامين من غلمان الأنصار ؟

وزوج أميّة الّتي لم يعُد إليها زوجها ولا ابنها.

وأبو لهب الّذي التهب بخبر الهزيمة.

ومن أهل مكّة من اختلطت لديه المشاعر، منهم أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط الّتي كانت مؤمنة حبيسة في مكّة.. فرحت بنصر الله، وأحزنها موت أبيها مشركا.

وعاتكة الّتي فرحت بتحقّق رؤياها، وحزنت لوقوع بعض أهلها في الأسر.

وأعظم من عانى من اختلاط المشاعر زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فرحت بانتصار والدها، وإعلاء كلمة ربّها.. ولكنّها حزينة على زوجها، فما سمعت بالفداء حتّى رفعت يدها خلف رقبتها وحلّت رباط قلادتها.. وبحثت عن أمين يصل بها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

ثمّ إنّها تعاني من نظرات أهل مكّة الحاقدة إليها..

فكان لزاما على زوجها أن يعِد النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بإخلاء سبيلها.

  • · وتجلّت في تلك الأيّام عظمة هذا الدّين.. فلم يأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالأسرى أن يقادوا إلى معسكرات تجويع وتعذيب..

ولم يأمرهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالأعمال الشاقّة.. بل تحوّلت سيوف المسلمين إلى أيدٍ حانية..شعارهم قول ربّ العزّة:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9)} [الإنسان].

ورأى المشركون الأسارى ما لم تره أعينهم من قبل: أيّام مضت عليهم أكلوا فيها وشربوا وناموا.. أيُعقل أن يعامل المسلمون هؤلاء الّذين{خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله} [الأنفال: من الآية47] ؟! هؤلاء الّذين حملوا السّيوف وطردوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ؟! يأمرهم ربّهم أن يُعاملوا معاملة المسكين واليتيم ؟!

نعم.. هذه هي معسكرات الأسر في الإسلام .. مهما كان العدوّ مجرما أو مشركا .. أخلاق زرعها الله في قلوب المؤمنين تعادل أعظم العبادات في الإسلام .. أخلاق طالما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يزرعها في قلوب أصحابه وقد حان قطافها.. كانوا يسمعون منه أحاديث قد حان اختبار أنفسهم بها..

روى أبو داود وأحمد عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: سمعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: (( إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ )).

وهكذا تحوّل الصّحابة من عاصفة هوجاء من السّلاح والموت إلى سحابة خير تنتعش بها القلوب.



[1] فهو ابن هالة بنت خويلد أخت خديجة رضي الله عنها.

أخر تعديل في السبت 04 رجب 1435 هـ الموافق لـ: 03 ماي 2014 09:57
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي