الأحد 20 ربيع الأول 1436 هـ الموافق لـ: 11 جانفي 2015 08:07

- السّيرة النّبويّة (85) هلاكُ كعب بن الأشرف.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد عِشْنا سويّا عودَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حاملين لواء العزّة والنّصر على الأعداء، ورأينا كيف كان موقف المشركين واليهود الخصوم الألدّاء.

وقد بلغ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم هذه الأيّام أنّ بعضهم قد تجاوز حدّه، وتناسى قدره، فلم يكتف بأن كفر بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّه اليوم يستغلّ بلاغته، وشعره وفصاحتَه، للاستهزاء بدين الله ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

إنّه رأس من رؤوس الكفر .. أحد سادات بني النّضير .. إنّه: كعب بن الأشرف.

فبعد أن وصله الخبر بنصر الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتيقّن من ذلك، ما كان منه إلاّ أن خرج حتّى أتى مكّة، فنزل على المطّلب بن أبي وداعة بن ضُبَيْرَة.

هناك صار يُنشِد الأشعار في ذمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويبكي أهل قليب بدر !

ذلك الّذي يحمِل كثيرٌ من علماء السّلف كلمةَ الطّاغوت في القرآن عليه.

روى الإمام الطّبري رحمه الله عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" لمّا قدِم كعبُ بن الأشرف مكَّة قالت له قريش: أنت خيرُ أهلِ المدينة وسيّدهم. قال: نعم !

قالوا: ألا ترى إلى هذا الصّنبور المنبتر من قومه، يزعم أنّه خير منّا ونحن أهل الحجيج وأهل السّدانة وأهل السّقاية ؟!

قال: أنتم خير منه !

فأُنزلت:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُوأنزلت:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ والطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء: من الآية50]، إلى قوله:{فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}". ورواه أحمد مرسلا عن عكرمة.[1]

وبعد أن عاد إلى المدينة شبَّب ببناتِ المسلمين حتّى آذاهم وآذاهنّ .. فكان لا بدّ من دفع الثّمن.

روى أبو داود وابن إسحاق بسند صحيح عن كعبِ بنِ مالك رضي الله عنه قال:

كَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ [شاعرا][2] يَهْجُو النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ ".

وفي رواية:" إنّ كعب بن الأشرف اليهوديّ وكان يهجو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويحرّض عليه كفّار قريش في شعره.. فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محمّد بن مسلمة وأبا عبس بن الحارث ابن أخي سعد بن معاذ في خمسة رهط ".

وأتمّ الرّوايات وأصحّها ما رواه البخاري ومسلم عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ ؟! فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ )).

فَقَامَ محمّدُ بنُ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه، فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ ؟

قالَ: (( نَعَمْ )).

قالَ: " فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا ؟

قالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( قُلْ )).

[في رواية غيرهما أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

(( نعمْ، وَإِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَلاَ تَعْجَلْ، حَتَّى تُكَلِّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ رضي الله عنه )).

فقال سعدٌ: اذْهَبْ إليه واشكُهُ الحاجَةَ، وسَلْهُ أَنْ يُسْلِفَكَ طَعَامًا.

وفي رواية ابن إسحاق: فلمّا أردوا الخروج مشى معهم صلّى الله عليه وسلّم إلى بقيع الغرقد ثمّ وجّههم وقال: (( اِنْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللهِ ! اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ )).

فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، [ أتوْهُ عشيّةً، وهو في مجلسه بالعوالِي، فلمّا رآهم كعبٌ أنكَرَهم، وكاد يذْعُر منهم، فقال: ما جاء بكم ؟] فقالَ ابن مسلمة رضي الله عنه: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا[أي: أتعبنا من المعاناة]، وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ.

قَالَ: وَأَيْضًا ؟ وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ !

قَالَ: إِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ، فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ.[ الوسق: ستّون صاعا ].

فَقَالَ: نَعَمِ ارْهَنُونِي ! قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ ؟

قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ ! قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا، وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ.

قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ ! قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ، فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ، هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ [يَعْنِي السِّلَاحَ.

وإنّما قال ذلك كيلاَ يَسْتَنْكِرُ غداً مجيئَهم بالسّلاح إلى حِصنِه].

فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَجَاءَهُ لَيْلًا وَمَعَهُ أَبُو نَائِلَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْحِصْنِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَخِي أَبُو نَائِلَةَ.

وفي طريق آخر قَالَتْ: أَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ ! قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ، إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ لَأَجَابَ.

قَالَ: وَيُدْخِلُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَعَهُ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: إِذَا مَا جَاءَ فَإِنِّي قَائِلٌ بِشَعَرِهِ، فَأَشَمُّهُ، ثمَّ أثشِمُّكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ.

فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مُتَوَشِّحًا، وَهُوَ يَنْفَحُ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ، فَقَالَ ابن مسلمة: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رِيحًا أَطْيَبَ !

قَالَ: عِنْدِي أَعْطَرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ، وَأَكْمَلُ الْعَرَبِ.

فَقَالَ محمّد بن مسلمة رضي الله عنه: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ رَأْسَكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَشَمَّهُ، ثُمَّ أَشَمَّ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ قَالَ: دُونَكُمْ ! فَقَتَلُوهُ.

ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرُوهُ.

أخبروه وبشّروه بالقضاء على طاغوت من طواغيت اليهود..

وهذا الحدث لم يكن سهلاً .. بل كان عميقا في نفوس يهود بني النّضير. فقد اهتزّت له حصونهم، واهتزّت مع ذلك أعماق المشركين المنافقين أيضا.

وكان لا بدّ من عقد اجتماع طارئ مستعجل، فيَدُ الموتِ أصبحت طويلةً تمتدّ إلى كلّ خائن، حتّى ولو كان زعيما من الزّعماء ككعب بن الأشرف.

روى أبو داود عنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قالَ - وهو تتمّة حديثه السّابق -:

" فَلَمَّا قَتَلُوهُ، فَزِعَتْ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، فَغَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالُوا: طُرِقَ صَاحِبُنَا فَقُتِلَ، فَذَكَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الَّذِي كَانَ يَقُولُ، وَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم إِلَى أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا يَنْتَهُونَ إِلَى مَا فِيهِ، فَكَتَبَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً صَحِيفَةً ".

وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رؤوفاً رحيماً، حيث لم يشملهم جميعَهم بالعقاب، إذ كان يجب عليهم أن يضربوا على يديه، وليس في كلّ مرّة تسلم الجرّة .. لذلك أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقيم عليهم الحجّة هذه المرّة بكتاب بينهم.

ولكنّ دماءَ كعب بن الأشرف لم تتجمّد، بل ظلّت تغلي في عروق اليهود، فما لبثوا أن أعلنوا الحرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

روى البخاري ومسلم عنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قالَ:

" حَارَبَتْ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ ".

ولكن ما هي قصّة بني النّضير ؟ وما قصّة بني قريظة ؟ ومتى كان كلّ ذلك ؟ هذا ما ستُسفِر عنه الأيّام .. ويتبيّن لنا من خلالها مصير اليهود اللِّئام.

وفي هذه الحادثة فوائد، منها:

1- أنّ من سبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو استهزأ به، فإنّ حدّه القتل، وهذا بإجماع أهل العلم.

2- عِظَمُ جُرم من يتشبّب ويُغازل بنات المسلمين، فما بال الأمّة اليوم تعظّم المغنّين الّذين لا يفترون عن ذلك.

3- جواز النّظق بالكفر والتّظاهر به في الحرب؛ فإنّ محمّد بن مسلمة تظاهر بالتذمّر من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما يكلّفهم به.

4- أنّ المعاهَدَ يسقط عهدُه إذا ما نال من الله تعالى أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو دينه.

5- فضل محمّد بن مسلمة وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، فقد كانا يتمتّعان بحسن التّدبير، وبراعة التّعبير.

6- استحباب تشييع الحاكم سراياه ومن يبعثُهم في أمرٍ ذي بال، والدّعاء لهم. [والتّشييع هو مرافقتهم إلى مكان خروجهم وانطلاقهم].

والله تعالى الموفّق لا ربّ سواه.



[1] انظر الصّحيح المسند من أسباب النّزول (ص77) للشيخ مقبل رحمه الله.

[2] ما بين المعكوفتين عند ابن إسحاق والبيهقيّ.

أخر تعديل في الأحد 20 ربيع الأول 1436 هـ الموافق لـ: 11 جانفي 2015 08:14
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي