الاثنين 23 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 29 نوفمبر 2010 10:27

- تفسير سورة البقرة (8) الإيمان بالغيب هو أصل الإيمان

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فما زلنا مع تفسير قوله عزّ وجلّ:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.

فكان أوّل المباحث المتعلّقة بهذه الآية الكريمة: بيان معاني ألفاظها، والمبحث الثّاني: بيان أنّ الإيمان هو تصديق وقول وعمل. ومن أهمّ المباحث الّتي لا بدّ من التطرّق إليها في هذه الآية:

· المبحث الثّالث: الإيمان بالغيب هو أصل الإيمان.

هذا الإيمان هو: الفارق بين المسلم والكافر، والفيصل بين المهتدي المطمئنّ والضالّ الحائر.

 

وإنّ المقصود بالغيب الّذي يجب الإيمان به هو: الّذي جاء في أخبار الله عزّ وجلّ، وصحّ عن رسوله صلّى الله عليه وسلّم، لا الغيب الّذي تنسجه أقوال الدجّالين، وتختلقه عقول الخرافيّين.

بأخبار الكتاب المنير، وما صحّ من سنّة البشير النّذير صلّى الله عليه وسلّم ينكشف الغطاء في الدّنيا قبل أن ينكشف يوم القيامة، قال عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه: ( لو انكشف الغطاء ما ازددت يقينا ).

يشير رضي الله عنهإلى قوله تعالى:{ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22]، ويقصد: أنّه إن مات وعاين العالَم الآخر، وأصبح الغيب لديه شهادةً فإنّه لن يزداد يقينا بالغيب، لأنّه على يقين به.

وقال بعض السّلف:" رأيت الجنّة والنّار " فقيل له: كيف ؟ فقال: رآهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأيتهما بعينيه، ورؤيتهما بعينيّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحبّ إليّ، فإنّ بصري قد يزيغ أو يطغى، أمّا بصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فما زاغ وما طغى ".

وطريقة القرآن وما صحّ من سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هي السّبيل الأوحد لتحصيل الإيمان بالغيب، ودفع الشكّ والرّيب.

لذلك كان لا بدّ من ذكر قاعدة نافعة في هذا الباب وهي:

إذا ثبت الأثر شهد النّظر.

وإنّما قال أهل العلم: ( إذا ثبت )، ولم يقولوا: ( إذا ورد ) كما هو شائع : اشتراطاً للصحّة.

وقالوا: ( شهِد النّظر )، ولم يقولوا: ( بطل ) كما يقوله كثيرون ، لأنّ النّظر لا يبطُل، ولكنّه يشهد.

- قال الله جلّ جلاله:{ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [الزّخرف:81]، فمعنى الآية على قول : إن ثبت أنّ لله ولداً كما تزعمون وتعالى الله عن ذلك، فأنا أوّل المصدّقين المتّبعين، وهذا معنى: إذا ثبت الأثر شهد النّظر.

- ويدلّ على ذلك أيضا حال الصدّيق رضي الله عنه .. وما لقّب بالصدّيق إلاّ ليقينه بالغيب الثّابت ..

فبعد حادثة الإسراء والمعراج العظيمة[1]، ذهب النّاس إليه ليزعزعوا إيمانه، ويزلزلوا يقينه، فقالوا له:

هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنّه قد جاء هذه اللّيلة بيتَ المقدس ! وصلّى فيه، ورجع إلى مكّة !؟

فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه: " إنّكم تكذبون عليه ". فقالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدّث به النّاس.

فقال أبو بكر رضي الله عنه وتأمّل ما قال : ( والله لئن كان قاله لقد صدق ) أي: إذا ثبت الأثر، شهد النّظر.

ثمّ تأمّل كيف يشهد النّظر ؟ إنّه استدلال العقل السّليم، فقال:

( فما يعجبكم من ذلك، فوالله إنّه ليخبرني أنّ الخبر ليأتيه من السّماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فأصدّقه، فهذا أبعدُ ممّا تعجبون منه ).

أي: إنّ إثبات النبوّة أعظم بكثير من ادّعاء الذّهاب إلى بيت المقدس والعودِ منه في ليلة واحدة، فإذا آمنت بنور نبوّته صلّى الله عليه وسلّم، آمنت بكلّ ما جاء من قبساتها.

ثمّ ذهب رضي الله عنه ليتثبّت من الخبر، فأقبل حتىّ انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبيّ الله، أحدّثت هؤلاء القوم أنّك جئت بيت المقدس هذه اللّيلة ؟

قال صلّى الله عليه وسلّم: (( نَعَمْ )). فقال: صدقت، أشهد أنّك رسول الله. فمن يومِئذ لُقِّب رضي الله عنه بالصدّيق.

- وفي الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم صَلَاةً ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: (( بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا، قَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحِرَاثَةِ )).

فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ )) وَمَا هُمَا ثَمّ.

أي: ليس في المجلس أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما.

فاعجَبْ لمن آمن بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم نبيّا ورسولا، ثمّ يأتيه النصّ من كتاب الله عزّ وجلّ، وما صحّ من السنّة، ثمّ يستبعد ذلك !

مواقف النّاس من الإيمان بالغيب.

إنّ هناك أربع طوائف ضلّت في هذا الأصل الجليل عن سواء السّبيل:

الأولى: طائفة أنكرت الغيب وقالوا: لا نؤمن إلاّ بما تدركه الحواسّ.

وهؤلاء حكموا على أنفسهم بالجنون لأنّهم لا يرون عقولهم، وحكموا على أنفسهم بالموت لأنّهم لا يرون أرواحهم.

الثّانية: طائفة تردّدت في الغيب، فتقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فآثرت التّسليم وإن كان خاليا من اليقين، وفي ذلك يقول الفيلسوف أبو العلاء المعرّي:

قال المنجّم والطبيـب كلاهمـا *** لا تبعث الأموات، قلت: إليكـما

إن صح قولكما فلست بخاسـر *** أو صح قولي فالخسار عليكــما

وهذا لن ينفع عند الله، لأنّ من شرط الفلاح والنّجاة هو الاعتقاد الجازم في الغيب، الذي لا يخالطه شكّ ولا ريب، وسيأتي إن شاء الله الحديث عن منزلة اليقين في الدّين.

الثّالثة: طائفة تُخضِع علم الغيب للعقول، ونسيت أنّ العقل عجز عن إدراك المادّيات فكيف بالغيبيّات ؟!

وهؤلاء هم الفلاسفة وعلماء الكلام، الّذين جعلوا ميزان الإيمان بالغيب هو طرق أهل الكلام والفلسفة، وقد ضربوا في بيداء لا يعرفون لها طريقا ولا يجدون فيها غير السّراب ..

هؤلاء إن لم تتداركهم رحمة الله فإنّهم يمرقون من الدّين دون رجعة، قال أبو حامد الغزالي رحمه الله:" أكثر النّاس شكّا عند الموت هم أهل الكلام ".

قال الإمام الطّحاوي رحمه الله في " عقيدة أهل السنّة ":

( فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ، حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ، وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ، وَصَحِيحِ الْإِيمَانِ، فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، مُوَسْوِسًا تَائِهًا شَاكًّا، لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبًا ).

قال ابن أبي العزّ الحنفيّ رحمه الله يشرح كلامه هذا:

" وهذه الحالة الّتي وصفها الشّيخ رحمه الله حال كلّ من عدل عن الكتاب والسنّة إلى علم الكلام المذموم، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنّة، وعند التّعارض يتأوّل النصّ ويردّه إلى الرّأي والآراء المختلفة، فيئُول أمره إلى الحيرة والضّلال والشّك، كما قال ابن رشد الحفيد - وهو من أعلم النّاس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم - في كتابه " تهافت التّهافت ":

" ومن الّذي قال في الإلهيّات شيئا يعتدّ به ؟ ".

وكذلك الآمدي، أفضل أهل زمانه، واقف في المسائل الكبار حائر.

وكذلك الغزالي رحمه الله، انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلاميّة، ثمّ أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم فمات والبخاريّ على صدره.

وكذلك أبو عبد الله محمّد بن عمر الرّازي، قال في كتابه الّذي صنّفه في " أقسام اللّذّات ":

نهاية إقـدام العقـول: عـقـال *** وغايـة سعي العالمين ضـلال

وأرواحنا في وحشة من جسومـنا *** وحاصـل دنيانا أذى ووبـال

ولم نستفد من بحثنا طـول عمـرنا *** سوى أن جمعنا فيه : قيل وقالوا

فكم قد رأينا من رجـال ودولـة *** فبادوا جميعا مسرعين، وزالـوا

وكم من جبال قـد علت شرفاتها *** رجال، فزالوا، والجبـال جبال

لقد تأمّلت الطّرق الكلاميّة، والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.اهـ

وبمثل ذلك صرّح أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، أنّه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلاّ الحيرة والنّدم، حيث قال:

لعمري لقد طفت المعاهد كلّها *** وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلاّ واضعا كفّ حـائر *** على ذقـن أو قارعا سن نادم

وقال أبو المعالي الجويني رحمه الله:

" يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنّ الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به ".

وقال عند موته:" لقد خُضت البحر الخِضمّ، وخلّيت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الّذي نَهَوْنِي عنه، والآن فإن لم يتداركْنِي ربّي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمّي - أو قال: - على عقيدة عجائز نيسابور ".

وكذلك قال شمس الدّين الخسروشاهي -وكان من أجلّ تلامذة فخر الدّين الرّازي - لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوما، فقال: ما تعتقد ؟ قال: ما يعتقده المسلمون. فقال: وأنت منشرح الصّدر لذلك مستيقن به !؟ أو كما قال، فقال: نعم، فقال: اشكر الله على هذه النّعمة، لكنّي والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتّى أخضل لحيته.

ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلاّ تزندق، وقال الشّافعيّ رحمه الله:" لقد اطّلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله، ولأن يبتلى العبد بكلّ ما نهى الله عنه - ما خلا الشّرك بالله - خير له من أن يبتلى بالكلام ".

والدّواء النّافع لمثل هذا المرض، ما كان طبيبُ القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله-إذا قام من اللّيل يفتتح صلاته-:

(( اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اِهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) [خرّجه مسلم].

توسّل صلّى الله عليه وسلّم إلى ربّه بربوبيّة جبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحقّ بإذنه، إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكّل الله سبحانه هؤلاء الثّلاثة بالحياة: فجبريل موكَّل بالوحي الّذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنّفخ في الصّور الّذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها، فالتوسّل إلى الله سبحانه بربوبيّة هذه الأرواح العظيمة الموكّلة بالحياة، له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان ".[2]

الرّابعة: طائفة تؤمن بكلّ ما يرد عليها من أخبار الغيب، فتأخذ بالصّحيح والضّعيف والثابت والموضوع، وهؤلاء كانوا مجمع النّفايات والفضلات الّتي يلقيها الخرّاسون والكذّابون.

وسبيل الله واضح: إذا ثبت الأثر، شهِد النّظر.

والشّاهد من الآية: أنّ الإيمان بالغيب من أعظم صفات المتّقين.

والحمد لله ربّ العالمين.



[1] كما في سيرة ابن إسحاق، و" دلائل النبوّة " للبيهقيّ، بسند حسن.

[2] " شرح العقيدة الطّحاوية " لابن أبي العزّ الحنفيّ رحمه الله (1/480-484).

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي