الجمعة 27 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 03 ديسمبر 2010 09:17

- توجيهات في تربية البنين والبنات (7)

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الخطبة الأولى:

[بعد الحمد والثّناء] أمّا بعد:

فقد رأينا في خطبتنا الأخيرة سبيلا نافعا من أساليب تربية الأولاد، وتعليم فلذات الأكباد، ألا وهو تربية الأبناء بالقَصص الهادف البنّاء.

ونتحدّث اليوم سويّا، ونتدارس مليّا، أساليب شرعيّة أخرى في هذا الأمر العظيم، من ذلك:

الأسلوب الرّابع: التّعليم والتأديب بـ:( الترغيب والترهيب ).[1]

فقد قال الله تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، فلن يجد الخلقُ منهجاً في التّربية والتّعليم، أحسن ولا أقوم ولا أنفع من منهج القرآن الكريم، وطريقة النبيّ عليه أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم.

 

وإنّ من منهج القرآن الكريم في هذا الباب العظيم: التّربية بالترغيب والترهيب، فمن المهمّ جدّا اعتماده وعدم الغفلة عنه، لأنّ النّفس جُبِلت على أن تميل إلى الثمرات الطيبة للأعمال وتطمع في الثواب، وتكره النتائج السيئة وتخاف من العقاب.

وإنّ هذا الأسلوب أنواع كثيرة، ليس للمربّي والوالد والمعلّم حجّة في تركه، منها:

1- الترغيب والترهيب بجزاء الآخرة.

فبهذا الأسلوب يرتبط الطفل بالله تعالى أكثر، لأنّك تربِطه من أوّل يوم بالجنّة الّتي لا تفنَى ولا يفنَى نعيمها، أمّا لو رغّبته بالمادّة فقط، فتفنى المبادئ بفناء المادّة.

فأخبره في التّرغيب بالأعمال النّافعة أنّها: طريق لرِضَى الرّحمن، وسبب لدخول الجنان.

فذكّره في باب برّ الوالدين بحديث النبيّ صلّى الله عليه وسلم: (( رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ )).

وبقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد الخروج للجهاد: (( الْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا )).

وإذا أردت نهيَه عن أمر قبيح، فرهّبه وخوّفه بعذاب القبر، وذكر النّار، وغير ذلك.

2- الترغيب والترهيب بمحبة الله وبغضه.

فإنّ الله كثيرا ما يرغّب العباد في الأعمال الصّالحة، ويختم أمره بقوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وأنّه يحبّ الصّابرين والمتطهّرين، وغير ذلك.

ثمّ قِف مع الولد وبيّن له ثمرة هذه المحبّة، فقد قال تعالى في الحديث القُدسِي: (( فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ )).

3- الترغيب والترهيب ببيان المصالح والمفاسد:

فتذكر محاسن الفعل الصّالح ومصالحه العاجلة في الدنيا، فتذكر له فوائد الصّلاة، والصّيام، والصّدق، وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام، وغير ذلك.

وفي المقابل ترهّبه من العمل السيّئ بذكر مفاسده، وعاقبته السيئة في الدّنيا والآخرة.

فيرهّبه من عقوق الوالدين بقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه النّسائيّ عن ابن عمر رضي الله عنه -:(( ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ: العَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ )).

ويرهّبه من سماع الغناء بذكر مفاسده على الفرد والمجتمع، ومفاسده على القلب، وأنّه من أسباب المسخ والخسف، وغير ذلك.

وكذلك الأمر لمن أراد الترهيب من التدخين، فيبدأ بالجانب الأخرويّ، ثمّ يأتي بالجانب الدنيوي للتّعضيد والتأييد.

ومن الأخطاء المندرجة في هذا الباب:

ما يقوله كثير من الآباء وهم يرغبون أولادهم في العلم، من أن العلم يجلب لهم الشهرة أو المناصب أو المال، وهم يظنّون أنّ ذلك أنجع من ترغيبه بنصوص القرآن والسنّة الّتي تبيّن فضل العلم.

وكان أنجع وأنفع أن يُعلّم الولد: أنّ العلوم الدّنيوية تنقلب طاعاتٍ يؤجر عليها العبد في آخرته إذا كانت النية خدمةَ الإسلام والمسلمين.

وإنّ العدول عن المنهج السويّ له آثار سيئة لا تُحدّ: أعظمها إفساد نية الولد في طلبه العلم، وسيرُه نحو ما رُغّب به إن هو حصل مرادُه، وربما ترك العلم إذا:

- رأى أنّه لم يُدرِك ذلك.

- أو أنّ تلك الأشياء قد ينالها بطرق أقصر، وسبلٍ أخصر.

4- التّرغيب بالجزاء والمكافأة، والتّرهيب بعكس ذلك:

فمن الطّرق المشروعة في باب التّرغيب: وعد الولد بالجزاء والمكافأة بما يحبّ الولد ويرْغَب فيه ( والنّفسُ راغبة إذا رغّبتها ).

والترهيب بالوعيد بالعقوبة وبما يبغض ويرغب عنه، سواء كان الأمر المطلوب دينيا أو دنيويا.

وهذا الطّريق من طرق القرآن الكريم أيضا؛ فالله تعالى كثيرا ما يرغّب عباده في الطّاعة بذكر ما أعدّه لهم من في دار السّلام، بذكر أشياء تميل إليها النفس البشرية فتستمع إليه وهو يقول:{ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [الغاشية].

فما أحلى وأطيب أن يستمع ولدك أو تلميذك إلى كلام الله عزّ وجلّ وهو يذكر ما أعدّه سبحانه للصّالحين في جنّات النّعيم !: الأسرّة العالية الوثيرة، والأكواب الّتي لا ترفع لاتّصال الشّرب منها، والوسائد المصفوفة، والزّرابي المنتشرة.

وتستمع إليه عزّ وجلّ وهو يرهِّب من السّيئات بذكر النّار وأحوالها، وجهنّم وأهوالها، فتستمع إليه وهو يقول:{ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) } [الغاشية]، فأخبر عزّ وجلّ أنّ شرابهم من عين شديدة الحرّ، وأنّ طعامهم من نبات ذي شوك يابس، لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولكن لا بدّ من ذكر بعض الضّوابط لهذا النّوع من التّرغيب والتّرهيب:

أ‌) أن لا يَعِد المربّي الطّفلَ إلاّ بما هو مباح، فـلا يجوز له أن يَعِد الولد بشراء لعبة فيها ضرر أو لباس غير شرعيّ، أو بأن يصطحبه إلى (أماكن يعصى فيها الله تعالى ) كالمسارح، والملاعب، أو دور السّينما.

ب‌) ويجب عليه أيضا أن ينفذ الوعد بالجزاء خاصّةً، فإنّ عدم الوفاء به من سوء التربية، وهو يسبب فقدان الولد للثقة في مربيه.

وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم - فيما رواه أحمد عن أبي هريرة -: (( مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ: تَعَالَ هَاكَ، ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كَذْبَةٌ )).

أمّا عدم تنفيذ الوعيد بالعقوبة فليس فيه سوء تربية، بل فيه تعليم للولد العفوَ عن المسيء وهذه خصلة حميدة.

5- التّرغيب والتّرهيب بالمدح والذم.

ويندرج في طرق التّرغيب: مدح الولد إذا قال شيئا حسنا أو فعلَه، وكذلك إظهار الفرح به.

ومن طرق الترهيب: ذمّه، وإظهار عدم الرّضى به.

فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عُمَرَ قال صلّى الله عليه وسلّم: (( نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ))، فَكَانَ رضي الله عنه بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا.

الأسلوب الخامس: التّربية بالقدوة الحسنة.

القدوة الحسنة من أعظم أساليب التربية الإسلامية الّتي دلّ عليها القرآن والسنة، ففيها إيصال الأدب عن طريق الفعل الإيجابي.

ومن الأدلّة على هذا الأسلوب قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].

وروى التّرمذي عن حُذَيْفَةَ عَن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( اِقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ )).

ومن أجل ذلك قصّ الله تعالى علينا قصص الأنبياء والصّالحين، ثمّ أمر باتّباعهم واقتفاء آثارهم، فقال آمرا نبيّه صلّى الله عليه وسلّم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اِقْتَدِهْ} [الأنعام:90].

ومن أجل ذلك أيضا كذلك قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم -كما في صحيح مسلم عن ابن عُمَرَ رضي الله عنه-: (( اِجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ))، فمن مقاصد ذلك: أن يقتدي الأولاد الصّغار الذين لا يؤتى بهم إلى المسجد بآبائهم.

وفي الصّحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ.

فهذا ابن عبّاس رضي الله عنه وهو غلام، بمجرّد أن رأى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم توضّأ وقام إلى الصّلاة، قام هو أيضا من غير أن يأمره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشيء.

إن أسلوب التربية بالقدوة مكمّلٌ للوسائل الأخرى مؤيّدٌ لها، فقد ثبت أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر الصحابة بالإفطار في رمضان يوم الفتح فتردد بعض الناس ! ( فدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ )، فجمع بين القول والفعل، والجمع بين الأمرين مهم جدّا.

وقد أكّد على هذا علماء الإسلام منذ القديم وتناقلوا وصيّة عمرو بن عتبة لمؤدّب ومعلّم أولاده حيث قال له:

" ليكن أوّل إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت ".

ويأتي على هذا الخير كلّه فينقضه أن: تخالف بفعلك قولك, فلا يصلح أن يأمر الوالد ابنه بالصّلاة وهو يراه متهاونا في شأنها ويؤخّرها عن وقتها ؟ أو أن ينهاه عن التدخين وهو يراه ملازما له ؟ وهل ينفع أن يأمره بالصدق وهو يراه يكذب ؟

من أجل ذلك أنكر الله تعالى ذلك إنكارا شديدا، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]، وقال منكرا على بني إسرائيل:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.. وحكى عن نبيّ الله شعيب عليه السّلام أنّه قال:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود من الآية: 88].

وروى البخاري ومسلم عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ ! مَا شَأْنُكَ ؟! أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ ؟! قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ )).

ورحم الله القائل:

يا أيّـها الـرّجل المـعلـّم غيـره *** هـلاّ لنفسـك كـان ذا التّعلـيـم

تصف الدّواء لذي السّقام وذي الضّنا *** كيـما يـصـحّ بـه وأنت سقيـم

ابـدأ بنفسـك فانـهـها عن غيّها *** فـإذا انتهـت عنـه فأنت حكيـم

لا تنـه عن خُلـُق وتـأتـي مثلـه *** عـار عليـك إذا فـعـلت عظـيـم

الخطبة الثّانية:

الحمد لله على إحسانه، وجزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلّ عليه وسلّم وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبعه بإحسان وسار على منواله، أمّا بعد:

الأسلوب السّادس: التّأديب بالعقوبة.

فمن أساليب التّربية والتّعليم: أسلوب التأديب بالعقوبة، ولا يشكّ أحدٌ أنّ هذا الأسلوب مشروع بدلالة الكتاب والسنة.

فقد روى الإمام أحمد عن مُعَاذٍ قال: أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ ذكر منها: (( وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ، وَلَا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا، وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ ))، وروى عبد الرزّاق عن ابن عبّاس رضي الله عنه مرفوعا: (( عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ البَيْتِ فَإِنَّهُ أَدَبٌ لَهُمْ )).

ولكن لا بدّ أن نعلم أنّ هذا الأسلوب له ضوابط وأحكام، فلا يلجه المربّي دون خطام أو زمام، أقول ذلك: لأنّ هذا الأسلوب قد دخله مفاهيم وتصرفات حرّفت أهدافه المقصودة، وغايته المنشودة.

من أمثال هؤلاء: المربّون والمعلّمون والآباء الّذين يمارسون على الأولاد إرهابا، ويَسُومُونهم عذابا، ثم يقولون: هذه هي التّريية !

ألا فلْيعلموا أنّه إذا ضاع المفهوم الصّحيح، ولم تُراعَ الضوابط انقلبت النتائج حتما رأسا على عقب، كما حدث في المجتمعات الغربية:

فإنّهم يوم تمادَوا في استعمال العُنف ضدّ الأولاد والتلاميذ، حدثت ردّة فعل خطيرة: فمنعوا من أن يكون للمربي حقّ التأديب ! وحرّموا على الآباء والأمّهات ضرب أولادهم، ولو كان ذلك في صالح الأولاد، فضاعت بذلك سلطة الوالدين على الأولاد.

من هذه الضّوابط:

أ‌) الأصل في التّربية هو الرّفق:

فقد أجمع المربّون على أنّ من أهمّ دعائم وأركان التّربية للأطفال الرّحمة والرّفق في التّوجيه، فالطّفل وإن كان صغيرا ضعيف الإدراك، قليل الفهم، إلاّ أنّه يعي ويدرك معنى البسمة الحانية، والاحتضانة الرّقيقة، قال تعالى لنبيّه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}..

وروى الحاكم عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا )).

وروى مسلم عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ )).

وروى مسلم أيضا عَنْ جَرِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ )).

وروى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ الرِّفْقَ )).

وصلّى الله وسلّم على من ربّى أمّة ولم يضرب عبدا ولا أمة.. روى أحمد عَنِ أَنَسٍ قَالَ: ( خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَشْرَ سِنِينَ، لَا وَاللَّهِ مَا سَبَّنِي سَبَّةً قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ أَلَّا فَعَلْتَهُ ).

وروى مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ( مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ).

فمن أراد الإصلاح والتربية، والتّعليم والتّزكية، فعليه بالكلمات .. الكلمات التي تحمل التّرغيب، فإذا لم تُجد انتقل إلى التّرهيب.. ثمّ انتقل إلى الزّجر ..

فإنّ الأولاد يختلفون، فمنهم من تؤثّر فيه الصّيحة أكثر من الحذف بالعصا، ومنهم من تؤثّر فيه بالنّظر أكثر من الخذف بالحصى ..

ب‌) التّخويف بالضّرب قبل الشّروع في الضّرب: فلا بأس- بل من السنّة - تخويف الولد بتعليق العصا أو السّوط على الجدار، فقد روى الطبراني عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ البَيْتِ، فَإِنَّهُ أَدَبٌ لَهُمْ )).

وقال لقمان الحكيم: ضرب الوالد للولد كالّسماد للزرع.

وقال سليمان بن داوود: من أراد أن يغيظ عدوَّه، فلا يرفع العصا عن ولده.

ت‌) الضّرب ليس هو الوسيلة الوحيدة للعقاب: فعلى المربي أن يعلم أن ذم الولد وتوبيخه عقوبة، وأن حرمانه من الجوائز دون إخوانه وأقرانه عقوبة، وأن التهديد والوعيد عقوبة، وأن الهجر وعدم التكليم للطفل عقوبة.

ومن العقوبات أيضا: الأمر بتصحيح الخطأ عمليا وهي من صور العقاب الإيجابي، كأمر الطفل بإصلاح ما أفسد، جمع ما فرق، وتنظيف ما لطخ، وكذلك تكرير كتابة ما أهمل كتابته ونحو ذلك، وأمر الأولاد بتصحيح الخطأ يربي فيهم النهوض للأمثل، والارتقاء للأفضل.

ث‌) لا يحلّ الضّرب إلاّ في سنّ التّمييز:

وقد اختلف العلماء في السنّ التي يضرب فيها الولد:

- فمنهم من حرّم الضّرب إلى سنّ العاشرة، قالوا لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما أذن بالضّرب على الصّلاة - التي هي أعظم ما يربّى عليه العبد - إلاّ بعد أن يبلغ عشر سنوات، قالوا: فغير الصّلاة من باب أولى.

- ومنهم من قال: يصلح الضّرب في آخر الأمر، في السنّ التي يقع بها التّمييز بين الخطأ والصّواب، وغالب ذلك في السّابعة والثّامنة، فمتى لم يدرك الخطأ والصّواب فيحرم الضّرب.

وممّا يدلّ على تحريم الضّرب لمن لا يستحقّه ما رواه مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: (( اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ: لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ ))، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَقَالَ: (( أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ )). وهذا محمول على التعدي في الضرب.

ج‌) الضّرب آخر الدّواء:

فهو أسلوب احتياطي يلجأ إليه المربّي بعد استفراغ الوسع واستعمال الوسائل الأخرى الأصلية في التربية، وهي التعليم بكل طرقه التي ذكرنا فيما مضى، فإنّه من الخطأ أن يؤدّب الولد على خطأ فعله لأول مرة ولم يسبق أن نبه عليه.

ومما يدل على هذا ؛ قوله تعالى في بيان طرق تأديب الزوجة الناشر أي العاصية لزوجها:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34]: فالموعظة: عند خوف النشوز، والهجر: في المضجع عند ظهوره، والضرب: عند تكرره.

ولا يجوز اللّجوء إلى الضرب ابتداء، ومما يدل على هذا المعنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (( مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ ))، فابتدأ بالتعليم الذي يدوم ثلاث سنوات ليستحق الولد بعد ذلك أن يضرب عليها.

وقد كان من عدل المولى عزّ وجلّ أن جعل عذاب الآخرة لمن عصاه مشروطا ببلوغ الرسالة وقيام الحجة فقال:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].

ونصّ الفقهاء على أنّه: لا تقام الحدود (وهي عقوبات شرعية في الدنيا) على من جهل الحكم الشرعي حتى يكون عالما به.

ح‌) آداب الوالدين في الضّرب:

فإذا لجأ الوالدان إلى الضّرب بعد كلّ هذه الشّروط، فيحرم:

أن يكون الضّرب انتقاماً.

أو ضرباً مُبَرِّحاً: وهو الذي يُسِيل دماً، أو يكسر عظما.

إنّما يكون ضربَ تأديبٍ وتعليمٍ وتوجيهٍ.

ويجب على المربي أن يُبيِّن للولد سبب الضرب، ولماذا لجأ إليه ؟

وإيّاك ثمّ إيّاك من الضّرب حالة الغضب..

وقد ذكر بعض الدّعاة قصة عجيبة لأحد الآباء، حيث إنّه عاقب ولده بالتوثيق بالحبال فوثّق يديه وقدميه، وذلك لأنه قام بتمزيق بعض الأثاث في المنزل الجديد، وجاءت أمّه تستشفع له فأبى الوالد، وما زال الولد يبكي ويبكي ويستغيث بأبيه والأب رافض فكّ وثاقه.

حتّى أُغمي على الولد ! فلمّا أسعفه إلى المستشفى قرّر الأطباء بتر وقطع أطرافه من اليدين والقدمين، وذلك لأنّ الدماء تجمدت ولو سَرَت في الجسد لتسمم الجسد كلّه ! ويوشك أن يموت !

وتمّت عمليّة البتر، وكانت الفاجعة بعد ذلك عندما كان الولد ينادي أباه، فيقول: يا أبت أعد إلي يديّ وقدَميّ .. ولن أعود إلى ذلك مرّة أخرى .. يا أبت سامحني على ما حدث مني وأعد إليّ يديّ.

فكانت عيشة نكدٍ لذلك الأب، وهذا كلّه بسبب سوء تصرّفه، وعدم اللّين والحلم والحكمة في التّربية.

فالله نسأل أن يُلهِمنا رشدنا، وأن يعلّمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علّمنا، والحمد لله ربّ العالمين.



[1] ومن أنفع المقالات في هذا الباب مقالات لأخينا الشّيخ الفاضل محمّد حاج عيسى حفظه الله وسدّد خطاه، وجعلتها هي المادّة الأوّلية للخطبة الأخيرة وهذه، فمن شاء التّوسّع في دراسة أساليب التّربية فلينظرها على موقعه النّافع: www.islahway.com

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي