السبت 28 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 04 ديسمبر 2010 13:44

- أصول النّحو العربيّ (6) الأدلّة الإجماليّة: كـلام العـرب.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد سبق أن ذكرنا أنّ أدلّة القواعد النّحويّة واللّغويّة الّتي مستندها السّماع على هذا التّرتيب:

1- القرآن الكريم بجميع قراءاته الصّحيحة ( المتواتر والشّاذ منها ).

2- ثمّ ما صحّ من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أحد الرّواة من الصّحابة.

وهذان الأصلان قد تناولناهما بالبحث والدّراسة بما فيه كفاية إن شاء الله.

وستناول في هذا الباب الدّليل الثّالث من أدلّة أصول النّحو، ألا وهو:

 

3- نثر العرب وشعرها في الجاهليّة.

4- ثمّ كلام الإسلاميّين الّذين لم يُشوِّه لغتَهم الاختلاط.

فاعلم أنّ العلماء قد وضعوا قواعد وأصولا يُضبَط ويوزَن بها الاحتجاج بكلام العرب، وهي على ما يلي:

· القاعدة الأولى: لا يحتجّ بشعر المولّدين.

فيقسّم العلماءُ الشّعراءَ إلى طبقات - كما في " شرح شواهد البيضاوي "، و" كفاية المتحفّظ " (ص 101) لابن الطيّب الفاسيّ-:

1- الجاهليّون: كامرئ القيس، والنّابغة، وزهير، وغيرهم.

2- المخضرمون: وهم من عاشوا في العصر الجاهليّ والإسلاميّ، كلبيد، وحسّان، والخنساء رضي الله عنهم.

3- المتقدّمون: ويقال لهم الإسلاميّون - وإن لم يكونوا مسلمين -: وهم النّشائون في الإسلام، كجرير، والفرزدق، والأخطل.

4- المولّدون: وهم من بعدهم كبشّار بن برد.

5- المحدَثون: وهم من بعدهم كأبي تمّام، والبحتريّ، والمتنبّي.

6- المتأخّرون: وهم من بعد أولئك.

فالمولّدون: هم الّذين جاءوا بعد الصّدر الأوّل من الإسلام كما في " المزهر في علوم اللّغة " (1/304)، و" خزانة الأدب " (1/4) لعبد القادر البغداديّ.

فجرى العلماء على جعل منتصف المائة الثّانية من الهجرة حدّا للّذين يصح الاستشهاد بشعرهم من الحضريّين.

- فكان إبراهيم بن هَرمة المتوفَّى عام (150 هـ) آخر من يصحّ الاستشهاد بشعره - وهو قرشيّ -، ولقد نقل ثعلب عن الأصمعيّ قال: خُتِم الشّعر بإبراهيم بنِ هَرمة.

- وبشّار بن برد أبو معاذ العُقيليّ المتوفّى عام (167هـ) كان أوّل الشّعراء المُولّدين الّذين لا يُحتجّ بشعرهم على متن اللّغة وقواعدها.

وقد زعم بعضهم أنّه يُحتجّ بالطّبقة الرّابعة، واستدلّوا بفعل سيبويه رحمه الله حيث إنّه احتجّ ببيت لبشّار بن برد في باب الإدغام وهو:

فما كلّ ذي لي لبّ بمؤتيك نُصحه *** وما كلّ مؤتٍ نصحه بلبـيـب

وردّ جمهور العلماء ذلك بما ذكره المرزُبانيّ (385 هـ) في " الموشّح " أنّ سيبويه إنّما فعل ذلك لأنّه كان هجاه لتركه الاحتجاج بشعره، فاتّقى شرّه بأن ذكر له بيتا في كتابه !

ولكن بعد التثبّت من هذا الخبر ندرك أنّ في ثبوته نظرًا بيّنا، لوجوه:

- أّن سيبويه لم ينسُبه إلى بشّار بن برد.

- أنّه لم يروِ إلاّ عجزه.

- أنّه قد جاء جاء في " رسالة الغفران " (431) للمعرّي قال:" وأصحاب بشّار يروون له هذا البيت، ونسبه كثيرون لأبي الأسود ".

- أنّه في ديوان أبي الأسود (ص 33).

وعليه يكون ما ذكره المرزبانيّ لا يستند إلى حجّة.

( تنبيه مهمّ ): اعلم أنّ أهل البادية استمر العلماء يدوّنون لغاتهم حتّى فسدت سلائقهم في القرن الرّابع الهجريّ.

بل ذكر ياقوت في " معجم البلدان " مادّة ( عكد ) أنّ أهل جبليّ " عكاد " فوق مدينة الزّرائب:" باقون على اللّغة العربيّة من الجاهليّة إلى اليوم لم تتغيّر لغتهم بحكم أنّهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحة، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه "اهـ.

وياقوت رحمه الله توفّي عام (626 هـ).

ثمّ جاء صاحب القاموس المحيط (817 هـ) فقرّر أنّ ( عكاد ) جبل باليمن قرب مدينة زبيد، وأهله باقون على اللّغة الفصيحة.

ثمّ جاء المرتضى الزّبيدي المتوفّى عام (1205 هـ) فأضاف في " شرح القاموس ": ( إلى الآن )، وقال:" لا يقيم فيهم الغريب أكثر من ثلاث ليال خوفا على لسانهم "اهـ.

· القاعدة الثّانية: لا يُحتجّ بكلام العرب المخالطين للعجم ولو كانوا في العصر الجاهليّ.

أوّل من حفظ عنه القصيد من الشّعر الجاهليّ هو مهلهل بن ربيعة، وهو خال امرئ القيس بن حجر صاحب المعلّقة.

قال ابن قتيبة:" هو عديّ بن ربيعة، وسمّي مهلهلاً لأنّه هلهل الشّعر، أي: رقّقه؛ ويقال: إنّه أول من قصد القصيد، قال الفرزدق: (ومهلهل الشّعراء ذاك الأوّل )"اهـ

قالوا: لم يقل أحدٌ قبله عشرة أبيات.

ويمتدّ العصر الجاهليّ إلى بعثة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وصدر الإسلام إلى 150 هـ.

فهذه المدّة تشمل: طبقة الجاهليّين، وطبقة المخضرمين، وطبقة المتقدّمين، وهذه الطّبقات الثّلاث حجّة كما سبق بيانه.

ولكن ليس كلّ من كان في العصر الجاهليّ والإسلاميّ يُحتجّ بكلامه، فقد جعل العلماء حدّا مكانيّا إضافة إلى الحدّ الزّمانيّ، فقالوا:

لا يحتجّ إلاّ بكلام الفُصحاء الموثوق بعربيّتهم الّذين لم تفسُد سليقتهم، وضبطوا ذلك بألاّ يؤخذ إلاّ بكلام القبائل الّتي سكنت قلب جزيرة العرب، وردّوا كلام القبائل الّتي على السّواحل أو بجوار الأعاجم فقرّر العلماء كما في " الألفاظ والحروف " و" المزهر " و" الاقتراح" للسّيوطيّ أنّه:

- يؤخذ عن قريش وهم أجود العرب، وتميم، وقيس، وأسد، فعليهم اعتمد العرب في فهم الغريب والإعراب والتّصريف.

- ثمّ هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطّائيّين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.

وبالجملة فإنّه لم يُؤخذ عن حضريّ، ولا عن سكّان البراري المجاورين للأمم الأخرى:

- فلم يؤخذ من لخم، وجذام، فإنّهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط.

- ولم يؤخذ عن قضاعة، ولا من غسّان، ولا من إياد، فإنّهم كانوا مجاورين لأهل الشّام، وأكثرهم نصارى يقرؤون في صلاتهم بغير العربيّة.

- ولا من تغلب، ونمر، فإنّهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان.

- ولا من بكر، لأنّهم كانوا مجاورين للنّبط والفرس.

- ولا من عبد القيس، لأنّهم كانوا من سكّان البحرين مخالطين للهند والفرس، وكذلك أزد عمان.

- ولا من أهل اليمن أصلا، لمخالطتهم للهند والحبشة.

- ولا من بني حنيفة وسكّان اليمامة، ولا من ثقيف وسكّان الطّائف، لمخالطتهم تجّار الأمم الأخرى.

ولقد ذكر الجاحظ في " البيان والتّبيّن " مقابلة بين ألفاظ مكّة والبصرة والكوفة تدلّ على انتشار كثير من الكلمات الأعجميّة في لسان العرب.

ولقِي هذا التّقسيم قبولا عظيما وجرى عليه عمل العلماء، حتّى إنّ الّذي يخرج عنه يكون قد عرّض نفسه للنّقد.

فهذا ابن مالك رحمه الله يشنّ أبو حيّان عليه حربا طاحنة من أجل اعتماده في تقرير القواعد على لغات لخم وجذام وغسّان، وقال أبو حيّان:" ليس ذلك من عادة أئمّة هذا الشّأن ".

وكان أبو عمرو بن العلاء يقول:" لا أقول: قالت العرب إلاّ ما سمعت من عالية السّافلة وسافلة العالية ". يريد ما بين نجد وجبال الحجاز حيث قبائل أسد وتميم وبعض قبائل قيس.

- ثمّ نظر العلماء إلى هؤلاء القبائل المحتجّ بهم فجعلوها مراتب، فخيرها ما كان أعمق في التبدّي وألصق بعيش البادية؛ ولذلك كان البصريّون بفخرون على الكوفيّين بأنّهم أخذوا عن الأعراب أهل الشّيح، والقيصوم، وحرشة الضّباب، وأكلة اليرابيع، ويقولون للكوفيّين: أخذتم عن أكلة الشّواريز وباعة الكواميخ.

- ومع ذلك كلّه قرّر العلماء وجوب التثبّت في نقل أشعارهم وكلامهم، فلا يقبل إلاّ ما رواه الثّقات عنهم بالأسانيد الصّحيحة، ولذلك عرفت الدّواوين في تلك الأيّاك كديوان امرئ القيس والطرمّاح وزهير جرير والفرزدق وغيرهم.

ومردّ الأمر كلّه إلى الوثوق بسلامة اللّسان وعدم تطرّق الفساد إليه، وهذا هو الضّابط الزّمانيّ والمكانيّ.

وعليه: تدرك إسقاط العلماء الاحتجاج بشعر أميّة بن أبي الصّلت، وعديّ بن زيد العبّادي، وحتّى الأعشى عند بعضهم، لمخالطتهم الأجانب وتأثّر لغتهم بهذه المخالطة.

( تنبيه ): وفي الوقت نفسه نرى بعض العلماء يحتجّ بكلام بعض الأئمّة كالشّافعيّ رحمه الله وهو متوفَّى عام (204 هـ).

نقل ابن شاكر القطّان (407 هـ) في " مناقب الإمام الشّافعيّ " بسنده عن الإمام أحمد أنّه قال: كلام الشّافعيّ في اللّغة حجّة.

وروى الحاكم في " فضل الشّافعيّ " بسنده عن أبي عثمان المازنيّ قال: كلام الشّافعيّ عندنا حجّة في النّحو، وعن الزّعفرانيّ قال: ما رأيت الشّافعيّ لحن قط.

نعم قد تعقّبه بعض العلماء في بعض الكلمات، وأجاب عنه أبو جعفر البيهقيّ المقرئ اللّغويّ (تـ:544 هـ) وألّف في ذلك كتابه "الانتصار"، وخرّج كلامه على القواعد المقرّرة.

وقيل أيضا إنّ كلام مالك حجّة أيضا.

· القاعدة الثّالثة: لا يُحتجّ بكلام لا سند له.

فلا بدّ من معرفة رواة البيت الّذي يُستشهد به لإثبات قاعدة نحويّة أو صرفيّة، فإنّ هناك كثيرا من الأبيات ثبت وضعُها، وأخرى ثبت تحريفها، ومن أحسن ما صُنّف هذا العصر من الكتب الّتي تبيّن الشّواهد الّتي حرّفها بعض النّحويّين كتاب " تغيير النّحويّين للشّواهد " للدّكتور عليّ محمّد فاخر.

· القاعدة الرّابعة: لا يُحتجّ بكلام مجهول القائل.

قال عبد القادر البغداديّ في " خزانة الأدب ":

" وعُلِم ممّا ذكرنا - من تبيين الطّبقات الّتي يصحّ الاحتجاج بكلامها - أنّه لا يجوز الاحتجاج بشعر أو نثر لا يعرف قائله، صرّح بذلك ابن الأنباري في كتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف "[1]؛ وعلّة ذلك مخافة أن يكون ذلك الكلام مصنوعاً، أو لمولّد، أو لمن لا يوثق بكلامه ".

الأمثلة:

- قال ابن النّحاس في " التّعليقة ":" أجاز الكوفيون إظهار " أن " بعد " كي " واستشهدوا بقول الشاعر:

( أردت لكيما أن تطير بقربتي ... فتتركها شنّـا ببيـداء بلقع )

قال: والجواب أن هذا البيت لا يعرف قائله، ولو عرف لجاز أن يكون من ضرورة الشّعر "اهـ.

- وقال أيضاً: " ذهب الكوفيون إلى جواز دخول " اللام " في خبر " لكنّ "، واحتجّوا بقوله:

( ولكنّني من حبِّها لعميد )

والجواب أن هذا البيت لا يعرف قائله ولا أوّله "اهـ.

· القاعدة الخامسة: لا يُحتجّ بما له روايتان: إحداهما مؤيّدة لقاعدة، وأخرى مخالفة.

مثالٌ على ذلك استدلال النّحاة على جواز تعدية الفعل ( مرّ ) بنفسه، بقول جرير بن عطيّة:

( تمرّون الدّيار ولم تعوجوا *** كلامكم عليّ إذاً حـرام )

قال السّيوطيّ في " شرح شواهد المغني ": قال الأخفش الأصغر: حدّثني المبرّد قال: حدّثني عمارة بن بلال بن جرير قال: إنّما قال جدّي:

( مررتم بالدّيار ولم تعوجوا ... )

فلا شاهد فيه ". وبمثل ذلك قال البغداديّ في " الخزانة " (2/291).



[1] (2/583).

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي