السبت 04 محرم 1432 هـ الموافق لـ: 11 ديسمبر 2010 00:00

- أصول النّحو العربيّ (7) الأدلّة الإجماليّة: الإجمــاع.

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فإنّ الإجماع في أصول النّحو العربيّ هو:" اتّفاق علماء النّحو والصّرف على مسألة أو حكم ".

وقد اختلفت عبارات العلماء في تحديد العُمدة في الإجماع المحتجّ به:

1) فمنهم من قال: هو إجماع العرب.

 

2) ومنهم من قال: هو إجماع البلدين: الكوفة، والبصرة.

3) ومنهم من قال: هو ما ذهب إليه أكثر النّحاة.

والمتأمّل يدرك أنّ كلّ ما ذُكر هو قابلٌ للنّقض:

* أمّا قولهم: إنّه إجماع العرب، فقد قال السّيوطيّ في " الاقتراح ":" وإجماع العرب أيضا حجّة، ولكن أنَّى لنا بالوقوف عليه ؟".

* أمّا قولهم: إنّه إجماع أهل البلدتين، فقد قاله السّيوطيّ في " الاقتراح "، وقال ابن جنّي في " الخصائص " (1/188): " يجوز الاحتجاج بإجماع الفريقين ".

فإن كان مرادهم أنّه يجوز التّرجيح به لقوّة مذهب المدرستين فذاك، وإلاّ فإنّ هناك مدرسةً ثالثة لها وزنها في علوم العربيّة، وهي مدرسة المدينة، وكان على رأسها عبد الرّحمن بن هرمز رحمه الله (تـ: 117).

وكيف يُهمل قوله وقد سبق في مسألة واضع النّحو أن ذكرنا أنّه ممّن نُسِب إليه أوّلية الكلام في النّحو ؟

قال القفطيّ رحمه الله في " إنباه الرّواة " (2/172) في ترجمة عبد الرّحمن بن هرمز:

" قال أهل العلم: إنّه أوّل من وضع علم العربيّة، والسّبب في هذا القول أنّه أخذ عن أبي الأسود الدّؤليّ، وأظهر هذا العلم بالمدينة، وهو أوّل من أظهره وتكلّم فيه بالمدينة، وكان من أعلم النّاس بالنّحو وأنساب قريش، وما أخذ أهل المدينة النّحو إلاّ منه، ولا نقلوه إلاّ عنه، وإليه اشار ابن بَرهان النّحويّ (تـ: 456 هـ) في أوّل شرحه في " اللّمع " بأن قال: النّحاة جنس تحته أنواع: مدنيّون، وبصريّون، وكوفيّون .. ويُروَى أنّ مالك بن أنس إمام دار الهجرة تردّد إليه لطلب النّحو واللّغة قبل إظهارهما "اهـ.

وهناك علمٌ آخر من أعلام المدرسة المدنيّة، وهو بشكست النّحوي عبد العزيز المقرئ (تـ:130 هـ)[1].

* وأمّا قولهم: إنّه إجماع أكثر النّحاة، فلا شكّ أنّ الأكثريّة إذا ذهبت إلى قول اطمأنّ القلب إلى قولهم، ولكن جعل مذهب الأكثريّة إجماعا فهو بعيد، لأنّ الصّواب لا يُعرف بالأكثريّة، ولكنْ يُعرف بالدّليل من القرآن والسنّة وكلام العرب، فإنّ هناك مسائل ذهب إليها أكثر النّحاة كان الصّواب فيها للمخالف.

* والصّواب أن يقال إنّ الإجماع مراتب:

1- أعلاها: ما لم يختلف فيه العلماء قاطبةً ؟ ويدخل في ذلك المعلوم من لغة العرب بالضّرورة، كرفع الفاعل، ونصب المفعول، وجواز تقديمه على الفعل أو الفاعل، وجواز تقديم الخبر حيث لا مانع، ومراعاة شروط الإتباع، وعدم جواز اجتماع التّنوين مع الإضافة ومع أل إلاّ بشروط، ونحو ذلك.

وقد ذكر السّيوطي في " الاقتراح " عن بعض العلماء قالوا: إجماع النّحاة على الأمور اللّغويّة معتبر، خلافا لمن تردّد فيه، وخرقه ممنوع.

ونقل عن عبد الله بن أحمد المشهور بابن الخشّاب أنّه قال في " المرتجل "[2]:

" لو قيل إنّ (مَن) في الشّرط لا موضع لها من الإعراب لكان قولا، إجراء لها مجرى (إن) الشّرطيّة، وتلك لا موضع لها من الإعراب، لكن مخالفة المتقدّمين لا تجوز "اهـ.

2- الإجماع السّكوتيّ على الكلام المرويّ عن العرب، فكلّ كلامٍ تُكُلِّم به في نثر أو شعر بشرطه، وسكت عليه العلماء في عصر تدوين النّحو فإنّه يُعدّ حجّة.

مثال على ذلك: استدلال ابن مالك رحمه الله على جواز تقديم خبر ( ما ) الحجازيّة على اسمها بقول الفرزدق:

( فأصبحوا قد أعاد الله نَعمتهم *** إذ هم قريش، وإذ ما مثلهم بشر )

فقد استدلّ بأنّ الفرزدق " كان له أضداد من الحجازيّين والتّميميّين ومن مُناهم أن يظفِروا له بزلّة يُشنّعون بها عليه مبادرين لتخطئته، ولو جرى شيء من ذلك لنُقِل، لتوفّر الدّواعي على التحدّث بمثل ذلك، ففي عدم نقل ذلك دليل على إجماع أضداده الحجازيّين والتّميميّين على تصويب قوله " اهـ من " شرح التّسهيل ".

فابن مالك يحتجّ بالإجماع السّكوتي على تقرير القواعد، إلاّ أنّه لم يُصِب رحمه الله في هذه المسألة؛ فقد قال سيبويه في " الكتاب " (1/60): " وهذا لا يكاد يُعرف "اهـ.

لذلك ما زال العلماء يذكرون أنّ الفرزدق تميميّ، فأراد أن يتكلّم بلغة الحجازيّين فلم يكن له دراية بشروطهم، وأُنشدوا قديما:

وجاء في شعر الفرزدق العجبْ *** خبر ( ما ) مقدّما قد انتصب

وهْو تمـيمـيّ، فكيف ينصبه؟ *** ورفعُه فـي كلّ حـال مذهبه

فإنكار سيبويه، والبصريّين لذلك كافٍ في خرق هذا الإجماع.

3- إجماع أئمّة المدارس الثّلاثة، ثمّ أئمّة البلدين: الكوفة والبصرة، كما مرّ في كلام ابن جنّي والسّيوطيّ.

مثال على ذلك: ومن جملة ما قاله ابن جنّي في موضع الردّ على المبرّد عندما منع تقديم خبر ( ليس ) عليها:

" فإذا كانت إجازة ذلك مذهباً للكافّة من البلدين وجب عليك - يا أبا العبّاس - أن تنفر عن خلافه، وتستوحش منه، ولا تأنس بأول خاطر يبدو لك فيه "اهـ.

تنبيهان مهمّان:

الأوّل: التّساهل في نقل الإجماع.

قد يتساهل بعضهم في نقل الإجماع مع ظهور المخالف، كقول السّيرافيّ عن الواو:" أجمع النّحويّون واللّغويّون من البصريّين والكوفيّين على أنّ الواو للجمع من غير ترتيب " اهـ.

وردّه ابن هشام في " شرح قطر النّدى " فقال:" وليس بإجماع كما قال السّيرافيّ، بل روي عن بعض الكوفيّين أنّ الواو للتّرتيب " وهو قول قطرب، وثعلب، والفرّاء، والكسائيّ، وابن درستويه.

الثّاني: معنى قولهم: لا يجوز مخالفة الإجماع.

معنى قولهم: إنّه لا تجوز مخالفة إجماع النّحاة عدم الجواز الصّناعيّ، لا الشّرعيّ الّذي يأثم فاعله.

قال ابن الطيّب الفاسيّ في " فيض نشر الانشراح " (2/712): " والمراد: لا يجوز صناعة، وهل يأثم فاعله ؟ تردّد فيه بعضهم، لكن قال بهاء الدّين السّبكيّ في " عروس الأفراح "[3]:

" حيث قيل في الجواز والامتناع في كلام البشر - يعني بالنّسبة للعربيّة واللّغة - لا يلزم من التكلّم بخلافه إثمٌ شرعيّ، فمن نصب الفاعل أو رفع المفعول مثلا في غير التّنزيل لا إثم عليه، ولا يأثم المتكلّم بشيء من اللّحن، إلاّ أن يقصِد بذلك إيقاع السّامع في غلط يؤدّي إلى نوع ضرر، فعليه حينئذ إثم، هذا هو المحذور.

قلت: هو كلام فصل في المقام، والله أعلم " اهـ.

شروط حجّية الإجماع:

قال ابن جِنِّي في " الخصائص " (1/189):

" وإنّما يكون حجّة إذا لم يخالف: المنصوصَ، ولا المقيسَ على المنصوص، وإلاّ فلا، لأنّه لم يرد في قرآن ولا سنّة أنّهم لا يجتمعون على الخطأ كما جاء النصّ بذلك في كلّ الأمّة، وإنّما هو علم منتزَعٌ من استقراء هذه اللّغة، فكلّ من فُرِق له عن علّة صحيحة، وطريق نهجةٍ كان خليلَ نفسه، وأبا عمرو فكره.

إلاّ أنّنا مع ذلك لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة الّتي طال بَحثُها، وتقدّم نظرها، إلاّ بعد إمعان وإتقان " اهـ.

فائدة الإجماع:

* أنّ من طلب الفصاحة فليحرِص على ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه.

مثال ذلك: مسألة عود الضّمير على متأخّر لفظا ورتبة، فالأحسن اجتنابها لاختلاف العلماء في جوازها.

* سدّ كلّ ذريعة قد تجرّ إلى ظهور اللّحن في اللّسان العربيّ، فالإجماع يجعل الحكم الظنّي قطعيّا.

* أنّه يُعمل بالمجمع عليه عند تعارضه مع المختلف فيه.

والله أعلم وأعزّ وأكرم.



[1] قال ابن عساكر رحمه الله في " تاريخ دمشق ":

" الملقّب ببشكست، المديني النّحوي الشّاعر، وفِدَ على هشام بن عبد الملك، فلمّا حضر الغداء دعاه هشام، وقال لفتيان بني أميّة: تلاحنوا عليه؛ فجعل أحدهم يقول: ياأمير المؤمنين، رأيت أبي فلانٍ، ويقول آخر: مرّ بي أبا فلان، ونحو هذا. فلما ضجِر أدخل يده في صحفةٍ، فغمسها، ثمّ طلى لحيته، وقال لنفسه: ذوقي، هذا جزاؤك في مجالسة الأنذال !.

قال ابن عساكر:" وكان بشكست نحويّاً، أخذ عنه أهل المدينة النّحو، وكان يذهب مذهب الشراة، ويكتم ذلك، فلما ظهر أبو حمزة الشاري بالمدينة خرج معه، فقتل فيمن قتل، وكان وقعة أبي حمزة بأهل المدينة سنة ثلاثين ومائة ".

وجاء في " إنباه الرّواة " (2/183) و" الأغاني " (1/111) و(20/108) أنّه قيل في مقتله:

لقد كان بشكست عبد العزيز *** من أهل القراءة والمسجـد

فبُـعدا لبشكست عبد العزيز *** وأمّا القرآن فـلا يبـعـدِ

والشّراة: طائفة خرجت على بني أميّة.

[2] توفّي عام (567 هـ) له " المرتجل في شرح الجمل " و( الجمل ) هو لعبد القاهر الجرجانيّ المتوفَّى (471 هـ).

[3] "عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح"، وتلخيص المفتاح للخطيب القزوينيّ رحمه الله.

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي