السبت 04 صفر 1432 هـ الموافق لـ: 08 جانفي 2011 13:47

- من أعلام الجزائر: الشّيخ محمّد شارف رحمه الله

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

 

الحمد لله مؤيّد الحقّ وناصره، وداحض الباطل وكاسره، ومعزّ الطّائع وجابره، ومذلّ الباغي وداحره، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، الّذي جعل في كلّ فترة من الرّسل بقايا من أهل العلم يدلّون من ضلّ إلى الهدى، ويُبصِّرون بنور الله أهلَ العمَى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالّ تائه قد هدَوه، فلله ما أحسن أثرهم على النّاس، وما أسوأ أثر المخذّلين عليهم.

وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، وصفيّه من خلقه وخليله، القائل: (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ )).

ورضي الله عن الصّحابة والتّابعين لهم بإحسان، الّذين رفعوا لهذا الدّين القواعد ونصبوا له المعالم، القائلين: ( لَمَوْتُ قَريةٍ بكاملها أهون عند الله من موت عالم )، أمّا بعد:

فقد مُنِيت أمّتنا الحبيبة بموت عالم من علمائها، وانطفاء سراج من سرجها، ألا وهو العالم الجليل، والإمام الفضيل، الشّيخ محمّد شارف رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى.

فإنّ العين لتدمع، وإنّ القلب ليحزن، وإنّا لفراق الشّيخ لمحزونون.

وليس لنا أمام هذا الحدث إلاّ أن نقف وقفات، ونقتبس منه العبر والعظات.

 

1- من صفات الشّيخ رحمه الله الخلقيّة.

فقد أكرمني الله عزّ وجلّ أن جلست إلى الشّيخ رحمه الله عام 1410هـ الموافق لعام 1990م، حيث كان يدرّس بالجامع الكبير بالعاصمة، فدرسنا عليه شيئا من " مختصر خليل " رحمه الله، ونُبذاً من شرح " المقدّمة الآجروميّة ".

- فوجدت أنّ الله عزّ وجلّ حباه بقدرٍ وافر من الحِلم والرّزانة، بقدر ما آتاه من العلم والفطانة.

- وكلّ من عرف الشّيخ رحمه الله شَهِد له بنهمِه الشّديد، ورغبته غير المحدودة في المطالعة، حتّى في السّنوات الأخيرة وهو مُقعَدٌ في بيته، كان لا يزوره أحدٌ من إخواننا إلاّ وجده عاكفا على المطالعة؛ حتّى أثّر ذلك على بصرِه، فكان جلُّ من يحضر مجالسه يجهل أنّ الشّيخ لا يُبصِر إلاّ بعين واحدة.

- وما ذُكِر الشّيخ رحمه الله إلاّ رُسِمَت في مخيّلتي تلك الابتسامة الّتي لا تفارقه.

- وكان لا يحجبنا عن الدّخول إلى مقصورته بالمسجد، فلا يُشكل علينا أمرا إلاّ قصدناه فوجدناه نِعم المعلّم والمعين.

- كما اشتهر لدى العامّ والخاصّ بزهده، وتواضعه، ولو نادى للرّفاه والجاه لأتياه طوعا، ولكنّه طلّق ذلك بلا رجعة.

ولزهده وشغفه في التّعليم، باع بيته الواسع ببوزرّيعة ليشتري بيتا ذا غرفتين فحسب بباب الوادي، كلّ ذلك ليتسنّى له أداء رسالته على أحسن وجه.

ومن علم نشأة الشّيخ واطّلع على شيء من حياته، علم سبب تلك الخصال الحميدة الّتي حباه الله بها.

2- كيف نشأ الشّيخ رحمه الله ؟

ولد الشيخ حوالي سنة (1325هـ/ 1908م)، بمدينة مليانة، بعرش " الحوامد " من أسرة مشهورة بالتديّن والعلم، والشّيء من معدِنِه لا يُستغرب:

فجدّه الحاج المدني كان معروفا باعتنائه بالفقه المالكيّ، حريصا على اقتناء الكتب ونسخها. وكذلك عمّ والده الشيخ ابن سهادة، ووالده الحاج عبد القادر وأخواله كانوا جميعهم مهتمّين اهتماما كبيرا بالعلوم الشّرعيّة.

فحفظ الشّيخ محمّد القرآن الكريم وهو ابن 12 سنة، وبعد أن أخذ مبادئ العلوم: اللغة والفقه على أيدي فقهاء بلدته وفي مقدّمتهم من سمّينا من أهل بيته، انتقل إلى مدينة مليانة، فأخذ العلم عن:

أ‌) الشيخ مَحمّد وكَّال المعسكري الأزهريّ رحمه الله [نسبةً إلى جامع الأزهر الّذي تخرّج منه]، فأخذ عنه علم النّحو والفقه.

ب‌) الشيخ عبد القادر مساعدية رحمه الله، حيث حضر له دروسه بمليانة.

ت‌) الشيخ محمّد بن عودة رحمه الله: أخذ عنه شرح " مختصر خليل ".

ثمّ حان الوقت ليرحل إلى العاصمة، ليواصل رحلته المباركة في طلب العلم وتحصيله، وذلك عام 1350 هـ الموافق لعام 1932م، فكان ممّن أخذ عنهم العلم:

أ) الشّيخ عبد الله الدراجي رحمه الله، الّذي كان يدرّس بـجامع محمد الشريف بحيّ القصبة، فلازمه مدّة ثلاث سنوات.

وأكرمه الله يومئذ بأن أخذ عنه شرح " ألفية ابن مالك " في النّحو، و" شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ".

ب) الشّيخ نور الدين عبد القادر البسكري رحمه الله، الّذي للزمه خمس سنوات، فأخذ عنه النّحو، والصرف، والمنطق، والعروض، وتاريخ الأدب العربيّ، و" مقدّمة ابن خلدون " في التّاريخ الإسلاميّ.

ج) الشّيخ محمود بن دالي المشهور بكحّول [الّذي اتّهمت السّلطات الفرنسيّة الشّيخَ الطيّب العقبي بقتله واعتقلته من أجل ذلك]: وكان الشّيخ كحّول إمام الجامع " الكبير " بالعاصمة. فأخذ عنه الشيخ " شرح قطر النّدى ".

ولم يُفوّت الشّيخ رحمه الله فرصة إقامته بالعاصمة فكان يتردّد على " نادي الترقّي " لسماع الدّروس الّتي يلقيها الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبيّ رحمهم الله، وأثّرت فيه تلك الدّروس كثيرا.

وقد شهد له غير واحد من أعلام الجزائر بالعلم والفضل، وخاصّة الشّيخ أحمد حماني والشّيخ أحمد سحنون رحمهما الله.

3- من محطّات المحنة والعناء، والمنحة والعطاء:

- حصل الشيخ رحمه الله عام 1354 هـ الموافق لعا 1936 على رتبة الإمامة، ولكنّ السّلطات امتنعت من تعيينه بحجّة انعدام المناصب التّوظيفيّة ! وتلك شنشنة لا نزال نسمعها في كلّ حين.

- وبينما كان الشّيخ ينتظر التّعيين، إذ به رحمه الله يقع ضحيّة التّجنيد الإجباريّ الّذي فرضه الاستدمار الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، فوقع أسيرا للجيش الألماني بفرنسا لمدّة خمس سنوات من عام (1939م إلى 1944م) [أي: قريبا من المدّة الكاملة للحرب].

وإن تعجَب فاعجَب من أنّ ذلك كلّه لم يمنعه من أمرين اثنين لا يجوز إغفال ذكرهما:

أ) لم يمنعه هذا الواقع الأليم من أن يعيش في رحاب العلم والتّعليم، والدّعوة إلى الله عزّ وجلّ، حيث كان يُلقِي على عدد كبير من الشّباب المعتقلين معه من مختلف البلدان دروسا تعليميّة:

فخصّ المثقّفين منهم بدروس في علوم اللّغة العربيّة.

وخصّ العوامّ منهم بدروس في الفقه، مثل: ( متن ابن عاشر )، و( المقدّمات الممهدات ) لابن رشد ![ومن لم يكن عربيّا التَمَس مترجما يترجم عنه باللّغة الفرنسيّة].

فمن المحزِن فِعْلاً أن نرى كثيرا من شبابنا اليوم يعزفون عن تحصيل العلم بسبب واقع مرّ يصفونه، وحال عصيب يعيشونه ! فهل بعد واقع الشّيخ رحمه الله واقع أمرّ وأعصب ؟!

ب) مواظبته رحمه الله على وِردِه من القرآن الكريم، فكان هو وبعض من كان معه يختمون القرآن في كلّ شهر مرّة.

- ومن المحن: أنّه حين عاد من الأسْر إلى الجزائر عام 1945م، ظلّ تحت مراقبة السّلطات الفرنسيّة ! وهو لا يزال ينتظر أن يُعيّن إماما بأحد مساجد العاصمة .. ثمّ يسّر الله عزّ وجلّ له أمره فعُيّن مؤذّنا بـ" الجامع الكبير " بالعاصمة، ثمّ إماما بجامع " سيدي رمضان " بحيّ القصبة، ثمّ استقرّ أخيرا إماما بالجامع الكبير إلى أن أطلّت شمس الاستقلال.

4- الشّيخ مـعـلّـمـا ..

لقد مارس الشّيخ رحمه الله التّدريس والخطابة بعددٍ من مساجد العاصمة، فمن الكتب الّتي درّسها:

1- في القرآن وعلومه:

- شرح الدرر اللوامع في روايتي ورش وقالون عن نافع.

- متن الخرّاز في رسم القرآن.

2- في الحديث:

- متن البيقونية.

3- في العقيدة:

- متن السّنوسية وشرحها.

ومن باب البيان والإيضاح – فلكلّ جوادٍ كبوة – فإنّ الشّيخ رحمه الله كان على العقيدة الأشعريّة المفوّضة، بحكم نشأته وتعلّمه، ولكنّه لم يكن ينظر إلى من انتهج منهج السّلف الصّالح في إثبات الصّفات نظرة العداء والجفاء، خلافا لبعض حاشيته.

4- في الفقه:

- " مختصر خليل ".

- " متن الرّسالة " لابن أبي زيد.

- متن ابن عاشر.

- " متن المقدمة العزية ".

- " الرّحبية " في المواريث، وكان آخر عهدي به قبل أن أرحل إلى الشّام أنّه شرع في شرحها بمسجد " فتح الإسلام " بباب الوادي.

5- في أصول الفقه:

- " متن الورقات " للجويني.

- " مفتاح الوصول " للشريف التلمساني.

6- في علوم اللّغة: من نحو وصوف وبلاغة:

- " المقدمة الآجرومية ".

- " قطر الندى " لابن هشام.

- " شذور الذّهب ". لابن هشام.

- " ألفية ابن مالك " في النّحو تصريف الأسماء.

- لامية الأفعال لابن مالك، في تصريف الأفعال.

- " الجوهر المكنون " للأخضري.

7- في المنطق:

- " متن السلم " في المنطق، للأخضري.

وغير ذلك ممّا لا يُحصَى كثرة، إلى أن أحيل على التّقاعد – وكان يسمّيه الموت عام 1407هـ/ 1987م. ومع ذلك بقِي رحمه الله يدرّس بالجامع الكبير إلى أن أقعدَه المرض.

5- الفاجعة ..

فقد فقدت الأمّة علما من أعلامها، ونجما من نجومها، ومن خصائص النّجوم:

أ‌) أنّها من سبل الهُدى في دياجير الظّلام، قال تعالى:{وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}.

ب‌) وهم زينة هذه الأمّة، قال تعالى:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}.

ت‌) وهم حماة الدّين وحرّاس الشّريعة، يردّون شبهات الزّائغين، وانتحال المبطلين، قال تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}.

وما أحسن تفسير ابن عبّاس رضي الله عنه لقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}، قال: تنقص خيرات الأرض بموت العلماء.

الأرض تحيا إذا ما عـاش عالمـها *** متى يمُتْ عالـمٌ منها يَمُتْ طرفُ

كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها *** وإن أبَى، عاد فـي أكنافها التّلف

رحم الله الشّيخَ رحمة واسعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي