الخميس 27 ذو القعدة 1431 هـ الموافق لـ: 04 نوفمبر 2010 06:50

- مواقف الأعلام من اللّحن في الكلام

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فلا يختلف اثنان من أصحاب العقول السويّة، أنّ اللغة العربيّة كانت في العصر الجاهليّ قد بلغت أعلى قمّتها، وأوج قوّتها.

فكانوا أهل الفصاحة والبيان، يتأثّرون بالبيت من الشّعر الوجيز أكثر من تأثّرهم بموت الحبيب العزيز ..

وكان الشّاعر مقدّما على كلّ أديب، ومعظّما قبل كلّ خطيب، وكانت القبيلة إذا نبغ فيها شاعر جدّوا وعظُموا ..

إلاّ أنّ الشّاعر مهما بلغ من المكانة العالية فإنّه يظلّ في أسفل سافلين حتّى تشهد له قريش وما جاورها من القبائل بنبوغه، فحينها يُعدّ من فحول الشّعراء ..

ولذلك أقاموا أسواقا لعرض أشعار الشّعراء على الفحول، كسوق عكاظ وهو أشهرها، وذو المجاز، ومجنّة.

وجاء الإسلام، وأنزل القرآن، فخرست ألسنة الشّعراء، وحارت أفئدة الأدباء ..

فلم تعرف العرب قط زمنا تناقلت فيه الحديث عن قوّة وفصاحة كلام ما، كما تناقلته عن القرآن، ومن أجل ذلك قال مجاهد رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ (2)} قال: هو القرآن.

ولكن، بقدر ما كانت العرب تمجّد البليغ الفصيح، كانت تستعظم اللّحن وتعدّه أقبح القبيح.

* موقف العرب من اللّحن في الكلام ..

ومن الجدير بالتّنبيه عليه أنّه لا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديث واحد في ذمّ اللّحن والخطأ في الكلام، وإن شُحِنت به الكتب المؤرّخة للعلوم، من ذلك:

- ما رواه الطّبرانيّ عن أبِي سعِيدٍ رضي الله عنه أنَّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:

(( أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبَ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِب، أَنَا أَعْرَبُ العَرَبِ وَلَدَتْنِي قُرَيْشٌ وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ فَأَنَّى يَأْتِينِي اللَّحْنُ ؟ ))[1].

وقد ذكره السّيوطيّ في " المزهر "(2/397).

- وفي " الخصائص " (2/8) لابن جنّي زعموا أنّ رجلا لحن أمام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: (( أرشِدوا أخاكم فإنّه قد ضلّ ))، وقد عزاه بعضهم - وهو صاحب " إرشاد الأريب "(1/82)- إلى ابن مسعود رضي الله عنه.

- وذكر ابن الأنباريّ في " الأضداد " (244) عن أبي بكر رضي الله عنه أنّه كان يقول: " لأن أقرأ فأسقط أحبّ إليّ من أن أقرأ فألحن ".

- وعن عمر رضي الله عنه أنّه مرّ على قوم يُسِيئون الرّمي فقرّعهم فقالوا: إنّا قوم متعلّمين، فأعرض مغضبا وقال: "لخطأكم في لسانكم أشدّ عليّ من خطئكم في رميكم، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( رحم الله امرأً أصلح من لسانه )).

وهذا رواه ابن عديّ والخطيب عن عمر، وابن عساكر عن أنس. وهو في " الموضوعات " لابن الجوزيّ (1/205)، و" المقاصد الحسنة " للسّخاوي (1/96)، و" كشف الخفاء " (1/426).

- ومن ذلك ما رواه البخاري في " الأدب المفرد " تحت قوله: باب الضّرب على اللّحن: عن عبد الرّحمن بن عجلان قال: مرّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه برجلين يرميان، فقال أحدهما للآخر: أَسَبْتَ، فقال عمر رضي الله عنه: " سُوءُ اللَّحْنِ أَشَدُّ مِنْ سُوءِ الرَّمْيِ "[2].

- وتنسب إلى عمر رضي الله عنه المقولة المشهورة:" تعلموا العربية فإنّها تثبّت العقل وتزيد في المروءة ".

وهذه الآثار عن الصّحابة الأخيار في سندها مقال، ولكن لا يُستبعَد ظهور اللّحن أيّام عمر رضي الله عنه، لأنّ الفتوحات قد كثرت يومئذ، فاختلط حينها العرب الفاتحون بالعجم من الرّوم والفرس والأحباش، فتسرّب اللّحن إلى عوامّ النّاس.

ولقد رصد العلماء لنا حوادث كثيرة[3]، يتبيّن لنا من خلالها موقف العلماء والفصحاء والملوك من تلك الظّاهرة الجديدة لدى العرب: ظاهرة اللّحن.

فتراهم أتوا بجميع السّبل والوسائل كي يُعيدوا الأمّة إلى فصاحتها، ويحفظوا لها لغتها، من هذه الوسائل:

1- التّرغيب في تعلّم اللّغة والنّحو:

- يقول ابن سيرين: ما رأيتُ على رجل أحْسن من فَصَاحة.

- وقال ابن شُبْرُمة: إذا سَرّك أن تَعْظُم في عَيْن مَن كنتَ في عينه صغيراً، ويَصْغُرَ في عينكَ من كان في عينك عظيماً فتعلم العربيةَ، فإنها تُجْرِيك على المَنْطِق وتُدْنِيك من السْلطان.

- ويقال: النّحو في العِلْم بمنزلة المِلْح في القِدْر.

- ويقال: الإعرابُ حِلْيةُ الكلام ووَشْيُهُ.

- ولبعض الشعراء في النحو:

النحوُ يَبْسُطُ من لسانِ الألْكَنِ [4] والمـرءُ تًكْرِمُـه إذا لم يَلْحَــنِ

وإذا طلبتَ مـن العلـوم أجلّـــها …فأجَلّها منها مُقِيـمُ الألْسُـنِ

- وقال الزّهري: " ما أحدث النّاس مروءةً أحبّ إليّ من تعلمّ النّحو ".

2- إكرام أهل اللّسان والفصاحة والبيان:

-  ذكر الأنباري في " الأضداد " (245) عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يقول:

" إنّ الرّجل ليُكلّمني في الحاجة يستوجبها فيلحن فأردّه عنها، وكأنّي أقضم حبّ الرمّان الحامض لبُغضِي استماع اللّحن، ويكلّمني آخر في الحاجة لا يستوجبها فيُعرب، فأجيبه إليها التذاذا لما أسمع من كلامه ".

-  وذكر عنه أنّه قال: " أكاد أضرَسُ إذا سمعت اللّحن "[5].

-  وذكروا عن والده عبد العزيز بن مروان أنّه كان يُعطِي على العربيّة ويحرم على اللّحن.

3- الاستهزاء بمن ظهر على لسانهم اللّحن:

-  قال رجل لأعرابي: كيف أهلِك ؟ -بكسر اللام يُريد: كيفَ أهلُك- فقال الأعرابي: صَلْباً. ظنّ أنه سأله عن هَلَكَته كيف تكون ؟

-  وقيل: كان بِشرٌ المَريسِي يقول لأصحابه: قضى الله لكم الحوائجَ على أحسِن الوجوه وأهنؤُها؛ فقال قاسم التّمار: هذا كما قال الشاعر:

إنّ سُلَيْمَيِ والله يَكْلَؤُها ... ضَنّتْ بشيءٍ ما كان يَرْزَؤُها

-  وسَمِع أعرابي والياً يَخْطُب، فَلَحن مرّةً أو اثنتين، فقال: أشْهَدُ أنك مَلَكتَ بقَدَر.

-  وسمِعَ أعرابي مُؤَذناً يقول: أشهَدُ أنّ محمداً رسولَ اللّه، بنصب رسول؛ فقال: وَيْحَك يفعل ماذا ؟

4- التّقريع والتّحذّير من اللّحن:

- قال مَسْلَمَةُ بن عبدِ الملك: اللّحنُ في الكلام أقبحُ من الجُدَري في الوجه.

- وقال عبدُ الملك: اللحن في الكلام أقبحُ من التفتيق في الثوب النفيس.

- قال أبو الأسْوَد: إني لأجِدُ غَمْزاً كَغَمز اللحم.

- وكانوا يقولون: ليس للاحنٍ حرمة !

ومن الطّرائف ما ذكره ابن الانباري في " الأضداد " (245):

أنّ رجلا استأذن على عبد الملك وبين يديه قوم يلعبون بالشّطرنج، فقال: غطّه يا غلام ! فلمّا دخل الرّجل وتكلّم لحن، فقال: يا غلام اكشف عنها ليس للاحن حرمة.

- وهذا أعرابي دخل السوقَ فسمِع قوما يَلْحَنُون، فقال: سبحانَ اللِّه ! يَلْحَنُون ويَرْبَحُون ونحن لا نلحَن ولا نربَح !

- ودخل رجل على زِيادٍ فقال له: إنّ أبينَا هَلَك، وإن أخِينا غَصَبنا على ميراثنا. فقال زياد: ما ضيعتَ من نفسك أكثرُ مما ضاع من مالك.

- وسَمِع أعرابي إماماً يقرأ:{وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}- بفتح تاء تنكحوا – فقال: سبحانَ الله ! هذا قبلَ الإسلام قبيح فكيف بَعْدَه ! فقيل له: إنّه لحنَ، والقراءةُ:{وَلَا تُنْكِحُوا} فقال: قبّحه الله، لا تجعلوه بعدها إِماماً فإنّه يُحِلُّ ما حَرَّمَ اللّه.

- وكان أخوف شيء على أمراء بني أميّة هو الوقوع في اللّحن، حتّى قيل لعبد الملك: لقد أسرع إليك الشِّيب ؟! فقال: شيّبني ارتقاء المنابر مخافة اللّحن.

- وكان عبد الملك لا يغتمّ لشيء كما يغتمّ لحال ابنه الوليد، فقد كان لحّانا، وممّا ذكره المؤرّخون أنّه قرأ مرّة على المنبر:{يَا لَيْتَهَا كَانَتْ القَاضِيَةُ}-بالرّفع-، فقال عمر بن عبد العزيز: عَلَيْكَ وَأَرَاحَتْنَا مِنْكَ !

- وكان الحجّاج من أبلغ النّاس وأفصحهم فإذا ظهر منه لحن ستره بأن يُبعِد كلّ من اطّلع عليه.

فقد روى ابن عساكر أنّ الحجّاج بن يوسف قال ليحيى بن يعمر: أتجدني ألحن ؟

قال: الأمير أفصح من ذاك.

قال: عزمت عليك لتخبرنّي. وكانوا يعظّمون عزائم الأمر.

فقال يحيى بن يعمر: نعم في كتاب الله.

قال: ذاك أشنع ! ففي أيّ شيء من كتاب الله ؟

قال: قرأت:{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ..} [التوبة: من الآية24]، فترفع أحبّ وهو منصوب.

قال: إذاً لا تسمعني ألحن بعدها. فنفاه إلى خراسان !

وغير ذلك من الأخبار، عن السّلف الأخيار، رحمهم الله رحمة واسعة.


[1] قال الألباني رحمه الله في " ضعيف الجامع "رقم: 1307: " موضوع "، ويقصد ما عدا صدر الحديث فإنّه في الصّحيحين عن البراء ابن عازب رضي الله عنه.

[2] ضعيف الأدب المفرد.

[3] ابن قتيبة في " عيون الأخبار " (2/159)، والجاحظ في " البيان والتّبيين "(2/219)، والسّيوطي في " المزهر ".

[4] قال في " اللّسان ": " اللّكنة: عُجمة في اللّسان وعَيٌّ، يقال: رجل ألكن بَيِّنُ اللَّكَنِ، ابن سيده: الألكنُ: الّذي لا يُقيم العربيّة من عُجْمة في لسانه ".

[5] أي: لأن أُصاب بالخَرَس أحبّ إليّ من أن ألحن، قال في " اللّسان ": " ورجل أخرس أضرس، إِتْبَاعٌ له، والضَّرْس: صمت يوم إلى اللّيل، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه كره الضَّرْسَ، وأصله من العضّ، كأنّه عضَّ على لسانه فصمت " اهـ. وما ذكره رحمه الله عن ابن عبّاس رضي الله عنه لا أثر له في كتب الحديث.

أخر تعديل في السبت 14 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2010 22:02
الذهاب للأعلي