الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنّ اشتراط الْمَحْرَمِ في كلّ ما يُعدّ سفراً هو مذهب جمهور السّلف والخلف، وعليه الحنابلة والحنفيّة والشّافعيّة، أخذاً بعموم الأدلّة.
أمّا من اكتفى باشتراط الرُّفقة الآمنة كالمالكيّة رحمهم الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ففيه نظرٌ بيّن.
وإليك هذا الحديثَ الّذي رواه البخاري عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:
سمعتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَخْطُبُ يقولُ: (( لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ !)) فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا ؟
قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( انْطَلِقْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ )).
فتأمّل - أخي الكريم - جيّدا هذا الحديث، ففيه غاية التّنفير من سفر المرأة وحدَها، وذلك من عدّة أوجُهٍ:
الوجه الأوّل: أنّ المرأة خرجت لأعظم سفر لها، ألا وهو الحجّ، الّذي عدّه الشّرع جهادَ النّساء.
فقد روى البخاري ومسلم عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: قلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ ؟ فقالَ: (( لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ .. حَجٌّ مَبْرُورٌ )).
هذه منزلة الحجّ في حياة المرأة، ومع ذلك يمنعُها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من السّفر وحدها.
الوجه الثّاني: أنّ زوجها اكتُتِب في أعظم واجب، ألا وهو الجهاد في سبيل الله ! ومع ذلك، أمره أن يتركَ هذا الواجب، ويلحق بزوجه !
فقارِن بأعذار النّاس اليوم !
الوجه الثّالث: لم يكن معهودا أن تسافر المرأة وحدها أبدا، بل نقطَع أنّها خرجت في رفقة.
ولا نشكّ في فضل وثقة تلك الرّفقة، فهي أفضل رفقة على وجه الأرض يومئذٍ: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ومع ذلك فقد أمر الزّوج باللّحاق بها.
الوجه الرّابع: من المقرّر لدى أهل العلم أنّ ( ترك الاستفصال في حكاية الحال، ينزل منزلة العموم في المقال ).
وفي هذه الحادثة، نرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يستفصل عن وجود الرّفقة أو عدمها، فيُحمل النّهي على العموم في المقال.
الحاصل: أيّما امرأة لم تجد المحرم، فإنّها تُعدّ غيرَ مستطيعة، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
والله تعالى أعلم.